
قد يكون الوقت مبكرًا لتحليل وتحديد أبعاد المشهد الإرهابي الذي حدث في مدينة نيس الفرنسية في الساعات القليلة الماضية، ومعه باتت فرنسا أمة متشحة بالإرهاب الأسود.
غير أنه ما يلفت النظر هذه المرة هو أن هناك ابتكارًا وإبداعًا شيطانيين في الأداة المستخدمة للإيقاع بأكبر عدد من الضحايا، أي الشاحنة التي كانت تحمل أسلحة ومتفجرات، وربما كانت التضييقات الأمنية هي التي منعت الإرهابيين من فتح نيران أسلحتهم الرشاشة على الجماهير، وهو الأمر الذي كانت تتوقعه الاستخبارات الفرنسية، غير أنه لم يخطر على قلب أحدهم أن تتحول المركبة العملاقة إلى أداة دهس وموت، كأن هناك من استلهم فكرة طائرات 11 سبتمبر (أيلول) في نيويورك.
المفاجأة الأخرى التي أعلنتها الشرطة الفرنسية هي أن منفذ عملية نيس غير معروف لأجهزة المخابرات الفرنسية، مما يفيد بأن إشكالية الذئاب المنفردة ماضية قدمًا، وهذه هي الكارثة وليست الحادثة. كما تظهر حادثة نيس أنه مهما كانت نجاعة الإجراءات الأمنية، فإن إرهاب القرن المعولم سيجد ولا شك مسربًا لفيروساته القاتلة.
ما جرى في نيس يعكس قدرة كبيرة لدى جماعات الشر على المناورة والمداورة، فقد توقع الجميع ضربة إرهابية على هامش بطولة كرة القدم الأوروبية، غير أن التخطيط الجهنمي راهن على موقع وموعد مغايرين وغير متوقعين بالمرة.
فرنسا تعاني، كما أشار الرئيس هولاند، والمتعصبون ينصبون لها فخاخًا واحدًا تلو الآخر، الأمر الذي يستدعي منها ألا تنجر وراءهم؛ ففي غمرة الضغوطات العصبية والنفسية تحدث الرئيس الفرنسي عن بلاده الواقعة «تحت تهديد الإرهاب الإسلامي»، على حد تعبيره، وفاته الاستنكار الواسع والرفض الشاسع لملايين من المسلمين في فرنسا وأضعافهم حول العالم، بل وإدانتهم للجريمة النكراء، وقد أوفى الحظ قبل ساعات من الحادث لمدير الاستخبارات المركزية الأميركية جون برينان، وأخلف هولاند.. لماذا؟
لأن الأول وفي كلمة له على هامش مؤتمر لمعهد بروكنغز للأبحاث في واشنطن أكد أن المملكة العربية السعودية التي تعد قلب الإسلام النابض، باتت تحت تهديد الإرهابيين، وأن الاعتداءات الثلاثة التي استهدفت السعودية أخيرًا تحمل بصمات «داعش»، وعليه فإنه لا يستقيم وجود تهديد إسلامي لقبلة المسلمين عالميًا، وإنما هو إرهاب منزوع الدين والضمير والخُلق.
يطلب الرئيس هولاند إظهار يقظة تامة وعزيمة صلبة لمواجهة الإرهاب، والجميع يتكاتف معه في هذا السياق، غير أنه يخشى تحت مرارة اللحظة الضاغطة أن تقع فرنسا في سياقات المفاضلة الزائفة بين الحرية والأمن، الأمر الذي كلف الأميركيين قرابة عقد ونصف العقد من الحيرة والارتباك، والتحول إلى «إمبراطورية الخوف»، على حد وصف مادلين أولبرايت وزير الخارجية الأميركية السابقة.
الرئيس هولاند يستدعي عشرة آلاف عنصر إضافي من الجيش للمشاركة في تأمين البلاد، ويدعو الاحتياطيين للمشاركة في تعزيز الأمن، وحسنًا يفعل، لكن تبقى الحقيقة، وهي أن مجابهة الإرهاب المبتكر عملية تقتضي تحركات تتجاوز ردات الفعل الخشنة، سيما أن التدابير الاستثنائية غالبًا ما تكون بمثابة «تربة انزلاقية» قد لا تقود إلى صيانة الدستور والحريات بل القضاء عليهما، الأمر الذي يفقد فرنسا خاصة أعظم ما لديها تاريخيًا: «الحرية، المساواة، الإخاء»، وهو هدف واضح للظلاميين الذين يتربصون بها.
ارتدادات نيس، ومن أسف شديد، ستقوي من عزم وعزيمة اليمين الأوروبي المتطرف والمغالي في الهوية القبلية، والعنصرية العرقية، بل والفوقية، والارتدادات ذاتها تسمع الآن في الولايات المتحدة، وتزخم فرص ترامب في انتخابات الرئاسة الأميركية المقبلة أو تعزز موقعه على خريطة السياسات الأميركية عامة.
ما جرى في نيس من جريمة نكراء يستدعي في واقع الحال تناديًا دوليًا، بل وقمة عالمية طارئة ومتخصصة لمواجهة الإرهاب الذي بات ينغص حياة البشر من مشارق الأرض إلى مغاربها، وشره يستفحل يومًا تلو الآخر.
قمة حقيقية، لا كلامية، ينتج عنها خطط ورؤى استشرافية، تستبق الفعل الإرهابي بخطوات لدرء مخاطره العالية، إذ لم تعد الجهود الفردية لكل دولة على حدة كافية لمقابلة الأسوأ الذي لم يأت بعد.
أمام مذبحة نيس يتذكر المرء ما قاله توماس جيفرسون، أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة والكاتب الرئيسي لإعلان الاستقلال من أن «القلق والاضطراب يمكن أن ينتجا شيئًا خيرًا، فهما يمنعان تكاسل الحكومات ويوجهان الانتباه نحو الشؤون العامة».
فرنسا وبقية أوروبا، والعالم العربي، والبسيطة برمتها، جميعهم يعيش خطرًا غير مسبوق يهدد الاستقرار الاجتماعي، إنه نوع من الأخطار الكبار التي يتحدث عنها فيكتور هوغو أديب فرنسا الكبير، تلك الأخطار التي تحمل في طياتها نوعًا من الجمال، إذ إنها تسلط الضوء على أواصر الأخوة بين الغرباء.
لكن يبقى على فرنسا أن تنتبه، فالعثور على الإبر قبل أن تزرع في أكوام التبن، أمر لا يبرر إحراق تلك الأكوام دفعة واحدة.