اللاّمعقول فقط ليس الحكم على الشيخ باي ثلاث سنوات نافذة، ولكن أيضاً مُجرد إخضاع تصرّفه الاحتجاجي التلقائيّ ذاك للمسطرة القانونيّة الباليّة عندنا التي لاتنتصر لقيم الحرية والعدل والمُساواة. كذلك أيضاً اللاّمعقول ليس فقط الحكم على الشباب النّاطق بقاعة المحكمة سنتيْن نافذتيْن، ولكن اعتبار تصرّفه ذاك جرماً شنيعاً، يحتاج للمحاكمة، والرميّ في زنازين السجن. اللاّمعقول الباطل.
*
الاحتجاج بالضرورة إبطال، لأنه ينحو منحى التغيير. وكل تغيير هو إبطال واعٍ يتجاوز الحاصل واقعياً إلى ماهو أبعد منه، في كيفيّة التجسّد. لذلك قُوبلَ الاحتجاج الطّامح إلى إبطال الفساد والظلم القائميْن بكل مفصل من مفاصل حياتنا بالتنكيل والسجن. ولكن الإبطال يأخذ قيمته من ذلك القمع الذي يُقابل به عند رعاة الواقع الرسمييّن الذين يُحافظون على امتيازات مكانتهم من خلال ذلك القمع.
"باطل..باطل"هذا ماردّده مصطفى وجمال وحامد قبل أكثر من أسبوعيْن في قاعة "المحكمة"حين حكم "القضاة" المَقضي بهم على الشيخ بايّ بالسجن ثلاث سنوات نافذة إثر احتجاجه المُتمثل في رمي الحذاء في وجه الناطق باسم حكومة نظام الجنرال عزيز نهاية يونيو الماضي. وتلك الـ"باطل" هي استئنافٌ جذريّ لقول الجامعة بن داوود في سفرٍ من أسفاره: "باطل الأباطيل.. كل شيء باطل". ولكنه استئناف على منحىً آخرَ: فحين يكون القضاء، باطلاً، من جهة نطقه بالأحكام، فلاشكَّ أنّ كل المنظومة المعياريّة المُنّظِمة باطلة هي الأخرى أيضاً. ويكفي من التأكيد على بطلانية ذلك القضاء أنّه حَكمَ على أولئك الشباب بالسّجن سنتيْن نافذتيْن، فقط لأنهم قالوا بأنّ حكمه على الشيخ باي هو حكم "باطل..باطل" نظراً لمدى التجني اللاّمعقول فيه، المدفوعِ في الخفاء بأجنداتٍ رسميّة فوقيّة، غير قابلةٍ للمُساءلة.
يكون الاحتجاج إبطالاً، بشروط الواقع المُحيطة به، والتي يحدثُ في إطارها. نسأل كيف يكون ذلك؟ إنَّ الاحتجاج، في حالتنا، هو إبطالٌ حقيقيّ، بفعل شروط الواقع التحصينيّة التي تلعب دور الحماية والرّعاية لصالح أولئك الذين يرون في استمرار ذلك الواقع استمراراً لهم ولنظام مركزهم. فتلك الشروط الصمّاء تمثَّل حاجراً يكون الاحتجاج الفعّال ضدّه بصيغة الإبطال أو لايكون. وإبطالها هنا يكون بنسف رصانتها المُدعاة وهزّ وجودها الزّائف وتعيين الميوعة الكامنة في صُلبها.
الإبطال الذي يُفيد التعطيل أو تجميد الدور الملعوب رسمياً-سلطوياً يبدو هنا الخيار الأنسب إزاء تلك الشروط التحصينيّة التي وصلت ميوعتها التوسعيّة لدرجةٍ جعلتها تحتضن كُلَّ آليات التعبير/المقاومة الشائعة بشكلٍ أفرغ هذه الأخيرة من معناها الحقيقيّ، الذي لو تُركَ طبيعيّاً لكان أدّى غايته ببساطةٍ: إزعاج راسمي تلك الحدود-الشروط التحصينيّة، المُفضي في النهاية، إلى إسقاطهم كُلياً.
إنَّ كلمة "باطل" تلك المُبطّلة التي نطق بها الشباب في قاعة المحكمة تندرجُ من ناحيّةٍ ما شديدة الصلة في التقليد التراثيّ الثائر: "كلمة عدلٍ عند سُلطانٍ جائر". ذلك أن تلك الكلمة هي أعظم فعلٍ ممكن. وستسهلُ المقارنة في هذا الصدد بين الحالتيْن دونَ تعسف. فالمحكمة، في حالتنا، هي السلطان الجائرذاك، والعكس إنْ جُرِّبَ صحيح. هذه المحكمة رغم ادعّاء صفة الوقار تضليلاً، هي بصورةٍ طبيعيّة الجناح القانونيّ لإضفاء الشرعنة على الأفعال والتصرفات الصادرة عن الحاكم-السلطان، كيْ تنال الاحترام. من هنالك أخذ الإبطال معناه الاحتجاجيّ: أن نقول في وجه سُلطةٍ اعتباريّة، مقدّرة بالعموم كلمة "باطل" تعليقاً على أحكامٍ صادرة منها، فهذا في حدِّ ذاته هو الاحتجاج بعينه.
يكونُ الفعل الاحتجاجيّ قيد لحظته فقط، ثم يذهبُ مخلفاً ضجيج إزعاجه، دون انتظار لحظة قطف ثمرة النتيجة. وهو في حالته تلك الخلاّقة يتسم بالحريّة الكاملة، لأنَّه - عادةً - خفيف إلاّ من لحظيّته.
يُمكن أن نقولَ أنَّ للإبطال ديمقراطيّة حقيقيّة. فهو ممارسة احتجاجيّة تعبيريّة إنسانيّة؛ هذا أولاً كتأكيد على ذلك، ثانياً هو عبارةٌ عن تجسيدٍ لحق الاعتراض في أبهى تجليّاته. ويكون احتجاج الاعتراض ديموقراطياً عند النّظر لدوافعه وغاياته. فبما أنَّ اعتراض أصحابنا كان نتيجةً لحكم القضاء التعسفيّ الجائر على الشيخ بايّ، الذي عبَّر بدوره بطريقةٍ ديمقراطيّة مألوفة عالمياً على نحوٍ كبير، فإنَّه استناداً على ذلك يصبح اعتراضاً ينتمي لنفس الحالة. هذا من حيث الدافع، أما من حيث الغاية فإنَّ ذلك الاعتراض المُمارِس للإبطال هنا يتغيّا مسألة واحدة: الحرية للشيخ باي، أيْ إطلاق سراحه، والكفِّ عن الزّج به في سجون السلطوية العسكريّة المُنفرة. وبالتاليّ، هو يتغيّا بطريقةٍ غير مباشرة حريته هو نفسه، بصفته معرّضاً لنفس المصير التكميميّ التضييقيّ السيّء إثر احتجاجٍ عاديّ ومألوف هو الآخر.
كيف يكون الاعتراض، أي الابطال هنا، تصرّفاً ديموقراطياً؟
في هذا السؤال شموليّة مضمرة مُخادعة، تدفعُ لاحتمالاتٍ مُضادة، عن طريق الاستباق الإدراكيّ. وعلى سبيل الرّد، سيكون الجواباً بسيطاً. إن الاعتراض يكون ديمقراطياً لأنَّ كل شيء محكوم تعاملياً وأدواتياً بخاصيّتيْ: الموافقة والاعتراض مع إمكان احتمالٍ ثالث أحياناً. من هناك فإنه سيصبح من المُستحيل تجنّب ذلك-كخاصيّة حتميّة، لأنّ في تجنّبه تجنّباً للشيء ذاك ذاته بإلغاء وجوده. فالوجود، بمعنى الحق في الظهور والتعبير والإعلان عن النفس، هو أكبر خاصيّة ديمقراطيّة لا إمكانيّة دونها لتحقيق ديموقراطيّة حقيقيّة. ولكن الاعتراض، عوضاً عن ذلك أيضاً، هو تصرّفٌ ديموقراطيّ كُلياً، عند التفكير في تقييمه، لأنه حصل في حضرة هيئةٍ قانونيّة تعبر عن نفسها بمفاهيم الحق، الحرية، العدالة. ولايفوتنا هنا أنَّ القول بأنَّ الاعتراض تصرّف غير ديمقراطيّ هو تقييم موّجه، وبتعبير أصحّ هو تقييم مُمأسس له تباعاته القانونيّة الصّعبة، كما في حالة أصحابنا، حين سُجنوا تلقائياً، إثر تعبير بسيط بكلمة "باطل". إنّ تقييما كذاك، عن لاديموقراطيّة الاعتراض، هو تقييم لاشرعيّة له، لأنه أعلن عن نفسه في فضاءٍ حقوقيّ ما. وكفى ابتذالاً ومسوخاً أن تُهان الحقوق في مكان يُقول عن نفسه أنه راعٍ للحقوق، إنْ لم يكن واقعياً فعلى الأقل افتراضياً: هذه أعظم إهانة على الإطلاق يُمكن تصوّرها.
صحيح أنَّ تعبير "لاديمقراطيّة الاعتراض" لم يأتي على ألسنة أولئك الذين شنّعوا تصرّف الشباب واستعظموه إجراماً، ولكنه تعبير جاء على لساني، كمُقابل إجرائيّ لما أردتُ هنا الدّفاع عنه. هم اعتبروا تصرّف الشباب، شنيعاً ولا-أخلاقياً احتقارياً، وحين حوّلوه تقييماً لمجال الحقوق قالوا بأنه تصرفٌ بدائيّ شوّه صورة الديمقراطيّة لأنّه عبّر باحتقار في حضرة هيئة قضائية موّقرة. لذلك فإنّه عندهم يستحق أعظم عقابٍ ممكن كذاك الذي حصلَ له. ولكن هؤلاء الذين قالوا بأنَّ ذلك التصرف كان إهانةً للقضاء لم يسألوا أنفسهم عن مدى احترام القضاء نفسه لحريّات الأفراد في إطارها العاديّ جداً. فالقضاء ذاك الذي قالوا بأنه أُهين إهانةً وقحة هو قضاء يُهين نفسه باستمرار من خلال سلوكيات تتكرر يومياً: الحكم بالبراءة فورياً على أصحاب النفوذ العالي، الذين غالباً لايصلون لقاعة المفوضيّة أحرى المحكمة، و بالمُقابل الحكم بالسجن لسنوات نافذة (...بشكلٍ تعسفيّ جداً) على أصحاب التحت الذي لامكانة لهم. هذا القضاء الوقور في زيفه السّاقط هو نفسه القضاء الذي يحكم بالسنوات النافذة على من عبّروا بحريّةٍ عاديّة جداً بشكلٍ يبدو مُلح الوجود إذا ماقورنَ بأصحاب الفوق الذي يظلمون ويسرقون ويقتلون ويسلبون دائماً.
حين تُحتقر مبادئ القضاء، كالعدالة مثلاً، على اختلاف التسميّة، من قبل القضاء نفسه، فإنّ ذلك القضاء يصبح بالضرورة السريعة في حاجةٍ لأن يُحتقر؛ فذلك أمرٌ يليق به جداً. سيكون ذلك الاحتقار حينها ترجمةً للاحتقار الذي مارسه هو في حق نفسه.
لم أجلس في قاعة المحكمة قط. وفي أوقاتٍ معينة، كانت تتوفر لديَّ إفادةً دراسيّة تدربيّة لأجل ذلك كنتُ أتجنّب دخول قاعة المحكمة المرعبة، لأنَّ قناعتي البسيطة كانت تخبر دائماً أنّ العدالة تقع خارج تلك القاعة: العدالة مرميّة في كُلِّ مكانٍ، ماعدا ذلك المكان. ومع ذلك فإني كنتُ لا أتصوّر أني أجلس يوماً فيها وقتَ النطق بحكمٍ، على واقعةٍ أعلمُ حقيقتها وبراءة صاحبها، كمايعلم رفاقي الشباب واقعة الرميّ ومدى التجني الذي مُورس إثرها على الشيخ باي. أقول أني لا أتصوّر أنّ الحكم ذاك يكون ظالما، طبقاً لمعرفتي بأنه كذلك، دون أن أنطق بـ"باطلٍ" عفويّة كما عبَّر الشباب إثر الحكم على الشيخ باي. أنطقها لا إراديةً أو إراديّة هذا لايهمَّ؛ المُهمَّ أن أنطقها فقط، لأنها حينذاك ستكون التعبيرالوحيد المُمكن. ولايهمَّ إنْ قيلَ أنّ تلك الـ"باطل" مهينة للقضاء. فيكفي إهانةً لذلك القضاء الذي يدعي الاحترام لنفسه أنّه لم يحترم الإنسان وكرامته وحريّته، بقدرما احتقره وأرادَ من خلال سجنه أن ينسج به أسوار مكانته التافهة.
استخدام صيغة المقابلة المُقارِنَة هنا، دفاعاً عن ذلك الاعتراض بصفته ديمقراطياً، ناجع أيضاً. فكما أنَّ القضاء عندنا لايحترم نفسه فإنهّ تبعاً لذلك لن "يُحترمَ" أبداً. وكما أنَّ الوزراء يسرقون ويفسدون دونَ حسابٍ ولاعقابٍ، دون مُراقبةٍ ولامُساءلة، فإنّ رميهم بحذاءٍ، مقارنةً بمايقومون به، ينبغي أن لايخضع لمراقبةٍ ولامُساءلة. إنهم هم من يرتكبون ذنبَ رميهم بالحذاء، هذا إنْ كان في ذلك ذنبٌ أصلاً.
ينضاف إلى ذلك، كوجهٍ من وجوه ديمقراطية ذلك الاعتراض، أنه جاء كمُشاركة مستحيلة في الحكم الذي فُعِّل بطريقةٍ فرديّة ظالمة. من هنالك هو فعلٌ ديمقراطيّ على طريقته، لأنه سعى لتوفير أسباب مُشاركته، حين وجدها منفية ومحظورة. ربّما، يُستبعد أن تكون تلك المُشاركة مُشاركةً مباشرة، من حيث صيّاغة الحكم، ولكنها بالتأكيد مشاركة غير مُباشرة. فالفعل الاحتجاجيّ المنفيّ الذي عبّر به الشيخ باي هو في النهاية سبب احتجاجهم المنفي هو الآخر. وتلك المشاركة ستكون سعياً إلى رفع النفي التجريميّ عن هذا النوع من الاحتجاج الذي يعبّر بطريقة الخاصة إزاء وقائع واقعه. هكذا تأتي وجاهة ضرورة المشاركة، الكامنة في صلب ذلك الاحتجاج، المقصيّ من المُشاركة رسمياً.
عن الاعتراض وقمعه، يتوّلد اعتراض إثر اعتراض تفاقماً. لتُغرس الديمقراطيّة بفعل ذلك شيئاً فشيئاً. فكما أن تصرف الشباب كان من أجل حريّة الشيخ باي فإنه أيضاً كان رفضاً للإكراه والحظر المطبقين على كل شيءٍ بتبرير من رزمة القواعد القانونيّة الباليّة كارثية التفعيل. وهذا يشير لمسألةٍ أخرى هو اعتراض الشباب ذاك الديمقراطيّ هو سعيٌ إلى ديمقراطيّة حقيقيّة بعيداً عن العسكر والقبليّة ..إلخ. هنا يتجلّى الاعتراض إبطالاً. والإبطال نفيّ، وكل نفيّ إمكانٌ بما يحتوي عليه من فرص التغيير-التبديل الأفضل قليلاً أو كثيراً. المهمّ أن يسقط نموذج التسيير الأحادي هذا وتتوفر بدائل أكثر حقوقيّة وجماليّة لاعقدة عندها على الإطلاق من مُساءلة نفسها دائماً. وهذا خلاصة طموح الشيخ باي والشباب ونحن.
نقلا عن مدونة الكاتب