اعتبر كثيرون من المراقبين أنّ الضرورات الاقتصادية الحاضرة والمستقبلية، قادت الطرفين الروسي والتركي إلى التقارب. وهذا صحيحٌ بالتأكيد؛ وبخاصة أنّ الطرفين منزعجان من الموقفين الأوروبي والأميركي وإن اختلفت الأسباب: روسيا بسبب الحصار من أجل أوكرانيا والقرم، وتزايد قوات الأطلسي وصواريخه على حدودها - وتركيا لأنّ أوروبا تلفظها ولا تريد إدخالها في الاتحاد، كما أنّ أميركا فضّلت العلاقة بحزب العمال الكردستاني على العلاقات معها! بيد أنّ هناك ملفًا آخر قد يفوق في الاعتبار لدى الطرفين.
فالشعوب والدول في آسيا الوسطى والقوقاز هي شعوبٌ ودول تركية، وإذا كانت روسيا لا تزال تسيطر في ذاك المجال؛ فإنّ تركيا ومنذ التسعينات من القرن الماضي، أقامت علاقاتٍ ثقافية ودينية واقتصادية كبرى وهائلة مع تلك الشعوب والدول، ومن دون اعتراضٍ من روسيا (باستثناء اختلاف طفيف حول أذربيجان)، لأنّ الإسلام التركي أفضل لديها من الراديكاليات والإيرانيات الجديدة، ولأنّ التنسيق جارٍ على قدمٍ وساق بين الطرفين في كل ما يتعلق بالمصالح والسياسات المتصلة والمتقاطعة في هذه المنطقة الشاسعة من آسيا الطورانية، والتي تمتد من الناحية الإثنية والأُخرى الدينية إلى عمق روسيا الاتحادية. فمعظم المسلمين الترك هناك وهنالك سنة على المذهب الحنفي، والنزوع الصوفي الشعبوي.
والسلطات في تلك الدول والروس رحّبوا بانتشار المدارس التركية الدينية والمدنية، ورحبوا أيضًا بإقبال الأتراك على بناء المساجد، وعلى رعاية المعالم التاريخية، وليس عندهم فقط؛ بل وفي البوسنة والهرسك وسنجق وكوسوفو أيضًا. هناك منطقة تركية هائلة الاتساع بين شرق أوروبا والبلقان وآسيا الوسطى والقوقاز، والتي عادت إليها تركيا بقوتها الناعمة.
لقد سمعتُ من خبراء أتراك، بعضهم معارض لإردوغان، أنّ أربعة من رؤساء جمهوريات آسيا الوسطى توسطوا في الشهور الأخيرة بين الطرفين، وعبّروا لبوتين عن انزعاجهم من هذا الغضب الساطع، والذي بدا من خلاله كأنما الروس والأميركيون يتعاونون في محاصرة إردوغان، مما يهدّد تركيا عسكرًا وساسة بالاضطراب. وهذا أمرٌ لا يتحمله أتراك آسيا الوسطى والقوقاز وروسيا!
إنّ التلاقي الروسي - التركي بعد قطيعة قصيرة بسبب اختلاف المصالح في سوريا، كان أمرًا لا بد منه. وذلك بسبب الأضرار الفادحة الاقتصادية والسياسية التي تقع بكلٍ منهما إن لم يفعلا ذلك. إنما منذ عام 2013 على الأقلّ إن لم يكن قبل ذلك بقليل؛ فإنّ الخلاف على سوريا ظهر بين الطرفين. فقد وقفت موسكو مع النظام السوري، وأمدّته بالسلاح والخبراء، بينما دعمت تركيا المعارضة السياسية السورية، والأُخرى المسلَّحة. وقد تشاور الطرفان مرارًا بشأن سوريا، ولم يستطيعا الاتفاق.
بيد أنّ الاختلاف في وجهات النظر بشأن الأسد ومصائر نظامه، ما كان شديد التأثير على العلاقات. فروسيا ما كانت «مكافحة الإرهاب» أولوية لديها، بينما ما كان بوسع روسيا تجاهُل حيوية سوريا بالنسبة لتركيا، إذ تملك معها حدودًا شاسعة، وقد اتجه اللجوء الكثيف إليها، وهي لا تريد مسلحين أكرادًا وكيانًا كرديًا على حدودها، كما لا تريد أن يصل إلى هذه الحدود الإيرانيون وميليشياتهم.
وما تهدّد هذا «الهدوء الحذِر» في العلاقات الروسية - التركية، إلا عندما تزايد التعاوُن الأميركي- الإيراني بالعراق، والتعاون الأميركي - الروسي في سوريا. فالولايات المتحدة ما أرادت العودة بجيوشها إلى المنطقة، وبحثت عن قوى على الأرض ملائمة للمساعدة والحماية في أمرين: حماية الأكراد في كل مكان، ومكافحة الإرهاب القاعدي والداعشي في كل مكان. وما استطاعت تركيا رغم كل المحاولات الهادئة والهائجة خلال ثلاثة أعوام أن تحولَ دون بناء الأميركيين لقوة كردية من حزب العمال (الإرهابي!) بالمناطق الكردية في سوريا، والتعاون مع الحشد الشعبي المتأيرن بالعراق. ولأنّ الأنبار لا تهمها كثيرًا؛ فإنها بنت «الحشد الوطني» من العراقيين السنة في شرق الموصل مع ثلاثة آلاف جندي تركي وبحجتين: مكافحة «داعش»، ومكافحة الإرهابيين الأكراد على مقربة من حدودها مع العراق. أما في سوريا، ورغم الأموال القَطَرية، ووجود مئات الآلاف من التركمان السنة (في جبلي الأكراد والتركمان)، وإيوائها لمئات الآلاف من الشبان السنة العرب؛ فإنها ما استطاعت تنظيم ثلاثين أو أربعين ألف مقاتل لحسابها، يستطيعون التدخل فيما بين الحدود وحلب، وفي المناطق التركمانية والكردية المتداخلة، أو ينتشرون بعمق 15 كيلومترًا مثلاً ليشكلوا حجابًا حاجزًا بين الحدود التركية والأكراد و«داعش» والقوات الإيرانية والمتأيرنة المتقدمة باتجاه الحدود منذ عام 2013!
بعد تفاقم المشكلة بين روسيا وحلف الأطلسي على أوكرانيا، قرر الروس التدخل في سوريا عسكريًا لنُصرة حليفهم الأسد، وتشديد التحالف مع إيران، وإرغام أميركا وأوروبا على التراجع. ويكاد يمضي الآن عامٌ على الوجود الروسي في شمال سوريا على الخصوص. وقد استطاعوا تعديل الموازين بالفعل بعد أن بدت قوات النظام والميليشيات الإيرانية في وضعٍ صعبٍ جدًا في شهور 2014 - 2015. لكنّ الأميركيين على عكس المتداوَل أظهروا ضعفًا وأخفوا خبثًا. فقد تركوا الساحة كما قالوا لموسكو، بل وخاضوا أخيرًا مفاوضات لإمكان تنسيق عسكري معهم ضد «داعش». وهكذا فلو نجحت المفاوضات، لصار الروس يشتغلون عند أطرافٍ ثلاثة وليس عند طرفين: إيران والأسد وأوباما! بينما ما استطاع التدخل الروسي الكاسح هذا أن يُرغم الأميركيين على شيء في أوكرانيا وشرق أوروبا. فالأميركيون ما تضرروا من التدخل الروسي في سوريا، بل الذي تضرر أولاً الثوار السوريون المعتدلون قبل المتطرفين، ثم الأتراك. الأتراك تضرروا من التقدم الكردي نحو الحدود وقد أخذوا منبج العربية الآن. وتضرروا من تهجير الطيران الروسي لعشرات الآلاف من التركمان. وتضرروا من تراجع جيش الفتح الذي يدعمونه وإقفال طريق الكاستيلو. وفي الواقع؛ فإنّ الاستراتيجيين الأتراك الذين تحدثنا إليهم، قالوا إن إردوغان بعد التدخلين الأميركي - الكردي والروسي - الإيراني على مقربة من الحدود، ما عاد يطمح لأكثر من منطقة عازلة بعرض عشرين إلى ثلاثين كيلومترا، ليس من أجل اللاجئين، بل من أجل أمن الحدود!
لكنّ إردوغان ذهب إلى روسيا أخيرًا (9-8-2016) وفي جيبه إضافة للأوراق الاقتصادية والاستراتيجية والجيوبولتيك التركي؛ ورقة صدمة «فتح حلب» أو انكسار الشوكة الإيرانية في حلب: فهل يحتضن بوتين إردوغان، ليس من أجل ما حصل في حلب فقط؛ بل ولأنّ الأكراد ثبت أنهم جميعًا أميركيون ولا نصيب لغير أميركا فيهم؟ وإذا قيل إنّ الذي أحدث التغيير الأخير في حلب هو تدخل جبهة فتح الشام (= النصرة سابقًا)، فإنّ الروس ليس لهذا الأمر أولوية لديهم. وهم في الأيام الماضية كثفوا القصف على إدلب لمنع حراك النُصرة وأحرار الشام باتجاه حلب وقد فشلوا في ذلك.
إنّ ما حدث في حلب ومن حولها سيدفع الإيرانيين لمزيد من الانغماس كعادتهم في كل تدخلاتهم الخارجية. لكنّ الروس لهم حساباتٌ أُخرى من بينها على الأقلّ: التسوية في العلاقة والإفادة بين تركيا وإيران. ولذا فالمتوقع بعد الزيارة الإردوغانية أن يحصل نوعٌ من الجمود على الجبهات، وأن يكثر الحديث عن العودة لمفاوضات جنيف التي قد تنعقد فعلاً آخر الشهر. فإن لم يحصل شيء من ذلك؛ فلا يكون السبب عدم الاتفاق بين إردوغان وبوتين؛ بل لأنّ الإيرانيين - كما قال نصر الله - يعتقدون أنهم في حلب يستطيعون تغيير التاريخ والجغرافيا، وإسقاط الإمبراطوريات: وعش رجبا تر عجبا!