عندما كلفتني اللجنة العلمية في مهرجان الجنادرية (2014 ,2015) بالكتابة عن «الرؤية الألمانية للعرب والإسلام» في ذروة تظاهرات «بيغيدا» ضد الهجرة الإسلامية، وقبل الموجة السورية الأخيرة، غرقْتُ بعض الشيء في التاريخ، بسبب معرفتي الجيدة بالاستشراق الألماني. لكنْ عندما وصلْتُ للفقرة الأخيرة في المحاضرة، وتعرضْتُ لتظاهُرات حركة «بيغيدا» اليمينية (مع بعض اليسار المتطرف!) ذكرتُ أنّ الأوروبيين تغيروا كما تغير العرب والمسلمون وربما أكثر. إذ لا ينبغي أن ننسى أنّ الفرنسيين اشترعوا قانوناً ضد النقاب في التسعينيات، ثم ضد الحجاب في مطالع القرن الجاري، وكلُّ ذلك في عهد شيراك الذي كانت علاقاته العربية والإسلامية ممتازة. وعندما كانت أحداث الاحتجاج تتفاقم في أحياء الهوامش بباريس في السبعينيات والثمانينيات، كان اليسار لا يزال مسيطراً في أوساط الشبان ذوي الأصول المغاربية. لذلك أذكر أنّ الرئيس جيسكار ديستان قال مرةً إنّ الشيوعيين واليساريين هم الذين يثيرون الشبان المغاربة ضد الحكومة! وعندما بدأ الحديث عن «الخطر الأخضر» أواخر الثمانينيات مع انهيار الاتحاد السوفييتي، باعتباره البديل المنتظر للتوتاليتارية الشيوعية، كان ذلك يعني (مع بعض المبالغة) تغيراً في اتجاهات الشبان المسلمين باتجاه «عودة الدين». بيد أنّ «عودة الدين» كانت قد صارت وقتها ظاهرةً عالميةً تناولت كل الأديان الكبرى.
على أنّ التلوين الديني لموجات العولمة وما بعد الحداثة إنما حدث لدى الإنجيليات الأميركية، أما في أوروبا فإنّ المتغيرات في الساحتين الاجتماعية والسياسية كانت ذات صبغة يمينية لا تهتم كثيراً للدين، بل لقضايا الهوية والهجرة، ويأتي الدين كعامل ثانوي. والطريف أنّ كثيراً من مفكري اليمين الجديد (في أوروبا وأميركا!) كانوا من أصول ماركسية راديكالية أو ما صار يُعرفُ في الستينيات والسبعينيات باليسار الجديد، والذين سُمُّوا فيما بعد في أميركا بالذات بالمحافظين الجدد، والذين أثروا كثيراً في السياسات الأميركية أيام ريجن وبوش الابن. لكنّ الأهمَّ أنهم أثّروا في المزاج الشعبي العام. وهؤلاء اليمينيون الجدد والقُدامى لا يثقون بالدولة الليبرالية المتضخمة، ولا بسياساتها في الرفاه وتقديم اعتبارات الملفّ الاجتماعي، والسياسات الضريبية والتقليدية التي اعتبروها قاسيةً على الطبقات الوسطى. ومن تلك السياسات الإنفاق الاجتماعي الواسع وتعويضات البطالة، والضمان الصحي العام، وإلزامية التعليم المجاني. والبارز للعيان في كل تلك الملفات السياسات الليبرالية للهجرة وقبول المهاجرين ومزاحمتهم للمواطنين الأصليين على فُرَص العمل، وسرعة اكتسابهم للجنسية.
إنّ ضغوط اليمين الجديد، والذي اكتسب شعبيةً لدى الطبقات الوسطى الصغيرة الخائفة على وظائفها، سرعان ما اتخذت طابعاً ثقافياً. فجرى الحديث عن الهوية العامة للمجتمع والدولة، ومن ذلك أنّ المسلمين «مختلفون» ويأبون الاندماج. وكان هناك من قال: نحن الأوروبيين تركْنا مسيحيتنا، لكنْ ليس لنستبدلَ بها ديناً آخر، يبدو أتباعه في المظهر العام، كأنما هم آتون من العصور الوسطى! ويذكر الأستاذ الأميركي Heppard في كتابه عن «الدول الديمقراطية والسياسات الدينية» (2007)، أنه ولأسباب انتخابية، فإنّ الأحزاب الكبرى في أميركا وأوروبا والهند (حتى العلماني منها) حاولت منذ السبعينيات والثمانينيات) أن تنافس الحركات الدينية واليمينية على الدين اكتساباً لأصوات المتدينين.
وهكذا فإنّ التغيير الكبير الذي لاحظه العالم في الإسلام والمسلمين عندما هجمت «القاعدة» على الولايات المتحدة عام 2001، كان يجري مثله وإنما باتجاهاتٍ معاكسةٍ في أميركا وأوروبا، وفي أوروبا أكثر من أميركا.
إنّ الحديث الكثير عن التعددية الثقافية ما نفع، لأنّ هناك موجة شعبية زاخرةً ما عادت تأبه لليبراليات وللديمقرطة الراديكالية، وللسياسات الديمقراطية الموروثة والمنفتحة. ولذا فبعد منع النقاب والحجاب (بفرنسا)، والمآذن (بسويسرا)، انطلقت موجات الإسلاموفوبيا في مواجهة «الإرهاب الإسلامي» الذي ضرب أوروبا. وقد استغلّ اليمين تلك الموجة، ليجتذب الجمهور الخائف والساخط، وما تزال المزايدات رائجةً. لكنّ أوروبا ونظامها بعد الحرب الثانية يتصدعان، ومن مظاهر هذا التصدع أنهم ضاقوا ذرعاً حتى بـ«البوركيني»، وأن سائر الأحزاب خضعت لضغوط الشارع، وما عادت تأبه للعلمانية وحقوق المواطنة. كما تتصدع الدول العربية والإسلامية تحت وطأة الانشقاقات في الدين والاجتماع!