استراتيجية مصرية دفاعية لإقفال 3 جبهات!

أحد, 2014-12-07 15:37
سليم نصار

التاريخ دائماً يعيد نفسه في مصر... وكما أفرج الرئيس أنور السادات عن جماعة «الاخوان المسلمين»، وتعاون معهم لصد التيار الناصري الذي أربك مرتكزات حكمه... كذلك تمت هذا الأسبوع تبرئة الرئيس المعتقل حسني مبارك ونجليه، ووزير داخليته حبيب العادلي، من تهمة قتل المتظاهرين.   وعندما انتهى القاضي من إعلان حكم البراءة، امتلأت مواقع التواصل الاجتماعي بتعليقات وردود فعل، منتقدة النظام الحالي، ومتهمة الرئيس عبدالفتاح السيسي بمحاولة استمالة أنصار الحزب الحاكم السابق من مدنيين وعسكريين. كل هذا، في سبيل التصدي لموجة العصيان التي أطلقتها قيادة «الاخوان» في شوارع المدن المصرية، وعلى أطراف صحراء سيناء.   يقول المراقبون إن التظاهرات التي ملأت شوارع القاهرة كانت تمثل خليطاً مشتركاً من «الاخوان» وشباب الثورة، الأولى والثانية، إضافة الى المحتجّين الذين فقدوا بعض أنسبائهم في غمرة الصدامات المتواصلة. ولاحظ رجال الشرطة أن أعداد الطلاب قد ارتفعت كثيراً في باحات الجامعات، الأمر الذي يؤكد انتقال المتظاهرين من الشوارع الى ساحات الجامعات.  

ومثل هذا التحول لا يعطل فصول الدراسة فقط، وإنما يدفع المتظاهرين الى الاحتماء بحرمة المعاهد من خراطيم المياه والغازات المسيلة للدموع. وفي نهاية الأمر، ستزداد النقمة اتساعاً بحيث يضطر الرئيس السيسي الى استخدام وسائل العنف.   والثابت أن جماعة «الاخوان المسلمين» تستفيد من توظيف حالات القلق والعنف والفوضى من أجل إحياء تنظيمات الخلايا السرية، واستئناف عمليات الاغتيال. وهي العمليات التي رافقت تطور الحركة، إن كان في العهد الملكي، أم في العهد الجمهوري العسكري.   صباح الثلثاء الماضي، فوجئ أنصار حسني مبارك بقرار محكمة النقض، وهي تعلن طعن النائب العام هشام بركات بحكم محكمة جنايات القاهرة. ويتوقع المراقبون احتمال فتح الدعوى من جديد، والمباشرة في إعادة إجراءات المحاكمة.   ويُستَدَل من ردود فعل المعلقين والمحللين في مصر أن أحكام التبرئة قوبلت باستحسان تشوبه نبرة التحفظ. وتذكر البعض أن جمال عبدالناصر لم يحاكم الملك فاروق، على رغم غرق عهده في الفساد والارتكابات.   وبعدما تنازل حسني مبارك عن منصب رئاسة الجمهورية، استجابة لثورة ميدان التحرير، انطلقت أصوات المعارضة مطالبة بمحاكمته عن الفساد والطغيان. وأصدر النائب العام في حينه قراراً يقضي بالتحفظ على كل أموال مبارك وأموال نجليه علاء وجمال، ومنعهم من السفر.  

وفي اليوم التالي تجمَّع آلاف المتظاهرين في ميدان التحرير، ونظموا محاكمة رمزية لمبارك. وتجاوب النائب العام مع إلحاحهم، وقرر توقيف الرئيس السابق على ذمة التحقيق في قضايا فساد وقتل اكثر من 800 متظاهر.   ردود فعل الصحافة المصرية تباينت بين مؤيد لتلك الخطوة، ومعارض لها. كذلك ظهرت مقالات تطالب بضرورة محاكمة النظام الفاسد الذي سمح لمبارك بتولي المسؤولية مدة 36 سنة، ومن ضمنها فترة نيابة الرئيس. واختصر المزاج الشعبي المحايد الكاتب أحمد عثمان في مقالة عنوانها: «لا تحاكموا مبارك... قبل أن تحاكموا النظام الفاسد».  

وبين الأسباب التخفيفية التي استند اليها، على سبيل المقارنة، قوله إن مبارك لم يهرب من البلاد كما فعل الرئيس التونسي زين العابدين بن علي... ولم يُدخل مصر في حرب أهلية، كما فعل الرئيس الليبي معمر القذافي، ولكنه تنازل عن السلطة بملء اختياره كي يمنع المواطنين من الغرق في أوحال فتنة داخلية.   قرار البراءة الذي صدر عن محكمة مصرية اعتبره المراقبون جزءاً مكملاً للقرارات السياسية التي اتخذها نظام السيسي بشأن التعاون مع عناصر من نظام مبارك. ومنذ شهر تقريباً، فوجئ المصريون بتعيين فايزة أبو النجا في منصب مستشار الأمن القومي. وقد بنت هذه «المرأة الحديدية» شهرتها على معارضة تدخل الولايات المتحدة في شؤون مصر الداخلية. كما دانت عدداً من الجمعيات التي تتلقى تمويلاً خارجياً تحت عناوين مختلفة. ومع أنها تولت في العهد السابق، مناصب ديبلوماسية رفيعة، إلا أن منصبها الجديد، كمستشار للأمن القومي، يسمح لها بتحقيق منجزات لم تكن متوافرة خلال عملها كوزيرة للتعاون الدولي.

  ومن العناصر التي خدمت في المجلس العسكري، اختار الرئيس السيسي أحمد جمال الدين لتولي منصب مكافحة الارهاب. وهو مركز بالغ الحساسية لا تقتصر نشاطاته على حماية المؤسسات الداخلية فقط... وإنما تتعداها لتصل الى المنطقة العازلة بين سيناء وغزة. أي المنطقة التي شهدت، قبل مدة قصيرة، مقتل ثلاثين جندياً مصرياً وجرح عدد مماثل.   وذكرت الصحف في هذا السياق أن الحكومة المصرية عازمة على استئصال جذور الارهاب، وإنشاء منطقة عازلة على طول الشريط الحدودي بين رفح المصرية ورفح الفلسطينية. ومن المتوقع أن تمتد هذه المنطقة الى مسافة 13 كلم، بعمق تراوح مساحته بين خمسمئة الى ثلاثة آلاف متر.   وضمن التوجيهات التي أصدرها الرئيس السيسي لرجال الأمن، ضرورة الاستنفار الكامل لحماية أمن مصر على مختلف الجبهات. خصوصاً بعدما قررت جماعة «الاخوان المسلمين» إرهاق النظام في كل بقعة. وأكبر مثال على ذلك ما حدث مطلع الشهر الماضي في يوم واحد: قتلت قوات الأمن أربعة إسلاميين أطلقوا قذيفة هاون باتجاه المتحف في العريش... كما أردت خمسة آخرين في مدينة المنوفية ضبطوا وهم يحاولون الاعتداء على ركاب القطار... وبعد مرور يومين على هذين الحدثين، وضع مجهولون عبوة ناسفة قرب قصر الرئاسة شمالي القاهرة.  

لهذه الأسباب وسواها، يرى وزير الداخلية السابق أحمد جمال الدين أن مهمته الجديدة، كمستشار لمكافحة الارهاب، تفرض عليه إجراء مسح شامل لمختلف بؤر التوتر. وهو يرى أن الأخطار الجدية تتوزع على ثلاث جبهات: منطقة سيناء، والحدود الغربية مع ليبيا، ومواقع الكثافة السكانية في القاهرة والاسكندرية.   وتتخوّف منظمات حقوق الانسان من سياسة مقاومة الارهاب، ومن الآثار السلبية التي تتركها على المجتمع. ذلك أن قمع المظاهرات لا يتم في الشوارع العامة فقط، وإنما يُمارَس داخل الجامعات، وفي مؤسسة الأزهر تحديداً.  

وكان من نتيجة هذه الاجراءات المشدَّدة أن ظهرت خلافات عميقة بين الجيل القديم والجيل الجديد داخل تنظيمات «الاخوان المسلمين». ذلك أن الجيل القديم، الذي اعتاد على ظلام السجون وظلم الاعتقالات، يرفض التنازل ويأبى الحوار. في حين يسعى الجيل الجديد من الشباب الى إقامة شبكة علاقات مع النظام يمكن أن تفتح أمامه فرص العمل السياسي. علماً أن اهتمام الرئيس السيسي منصبٌ، في الوقت الراهن، على تنمية الوضع الزراعي والاقتصادي في صحراء سيناء، الأمر الذي يوفر العيش الكريم لمئات العائلات التي هدمت منازلها على طول الحدود مع غزة.   ومثل هذا الاهتمام ينسحب على القضايا المتعلقة بالشؤون العربية، وبالدور الذي تتوخاه دول مجلس التعاون الخليجي من مصر. وقد عبَّر السيسي عن ملامح هذا الدور عندما اقترح تشكيل تحالف عربي مناهض لـ «الدولة الاسلامية» التي أعلنها «داعش».

وقد ظهر هذا التحالف الأسبوع الماضي بعدما أعلن العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبدالعزيز عن مساهمة بلاده في إنجاح المصالحة الخليجية. وكان الملك عبدالله قد دعا مصر الى الانفتاح على قطر، والمساهمة في تعزيز الاتفاق الذي توصل اليه مؤتمر الرياض.   بقي السؤال المتعلق بإعادة فتح ملف الفساد في عهد حسني مبارك... وما إذا كانت الوثائق التي نشرتها وكالة «ويكيليكس» حقيقية أم مزيفة.  

تدّعي الوكالة أن المليونير حسين سالم أسس شركات وهمية استفاد منها الرئيس مبارك وزوجته سوزان وولداه علاء وجمال. وقام سالم بنقل حصيلة العمولات الى حسابات سرية في مصارف اوروبية مختلفة. ولما اتهمه جمال بالتهرّب من تسديد القيمة الكاملة، دافع عن نفسه بالقول إنه بنى له في شرم الشيخ فيلات عدة، وحوَّل له الى حسابه كمية كبيرة من المال. وفي آخر تصاريحه، اعترف بالعمولات التي قبضها نتيجة صفقة الغاز مع اسرائيل، وصفقات أخرى تتعلق بشراء أجهزة عسكرية.  

واللافت أن جماعة «الاخوان» استغلت فترة حكم محمد مرسي لكي تطلق إشاعات على سوزان مبارك، وتدّعي أنها حوّلت الى حسابها أكثر من 150 مليون دولار جمعتها من تبرعات لمكتبة الاسكندرية. وبين الوثائق التي جمعها «شباب الثورة» ما يشير الى أن السيدة الأولى السابقة حصلت على آثار نادرة من المتحف الوطني، بينها حلى ذهبية فرعونية.   قبل يوم واحد من دهم مئات المتظاهرين مقر المباحث في «حي نصر» في القاهرة، ألقى أنصار مبارك آلاف الوثائق في النار خوفاً من وقوعها في أيدي المعارضة. ولكن مئات الوثائق وجدت طريقها الى الجمهور، بحيث بيعت النسخ المصوّرة بجنيهَيْن فقط!  

وعلى ضوء هذه الخلفية المؤلمة، يراهن المحايدون في مصر على انبلاج فجر جديد يمكن أن يعيد اليهم الاستقرار المطلوب، في حال جرت الانتخابات النيابية بعد ثلاثة أشهر. أو في حال رأى المدعي العام في عبارة تشرشل، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، عبرة يمكن الاقتداء بها: «إذا أصرَّ الحاضر على محاسبة الماضي، فإن بريطانيا ستضيِّع المستقبل».