استنزاف شعبية الرئيس

اثنين, 2014-12-08 00:41
عبد الحليم قنديل

أكبر الخاسرين من حكم تبرئة مبارك هو الرئيس السيسي نفسه، فالحكم يأخذ من شعبية الرئيس بدواعي اختلاط السياسة مع القضاء.
وقد لا يتوقف الناس كثيرا عند الكلام الممهور بختم النسر، ومن نوع تأكيد احترام أحكام القضاء، أو الامتناع عن التعليق، أو إضافة عبارة «تقدير القضاة» في كل مناسبة، فهذا كله كلام قد يكون مفهوما مؤسسيا، أو عملا باعتبارات القانون، أو صيانة لهيئات الدولة، لكن الرأي العام لا يصدق، ويعتبر كل عمل قضائي عملا سياسيا بامتياز.
والنتيجة، أن أحكام القضاء تسبب مشكلات للرئيس، ليس فقط حكم تبرئة مبارك في الدعوى الجنائية المحدودة، والمثقوبة بتضييع الأدلة، والمهيأة بأوراقها المهلهلة لأحكام تبرئة تلقائية، بل أن أحكام القضاء في قضايا الإخوان تثير ذات المصاعب السياسية، خصوصا أحكام الإعدام المغلظة بالجملة، وهي أحكام إعدام لا تعدم أحدا، ولا يزال الشوط القضائي طويلا لإثباتها أو إلغائها، لكن أثرها الوقتي صادم سياسيا، وتصور مصر كما لو كانت بلد المشانق المنصوبة، وهو ما لم يحدث، ولن يحدث غالبا، إلا في قضايا قتل مؤكدة بالدليل الجنائي الدامغ المباشر، وقد تصيب رهطا من صغار الإخوان، لكنها لن تطال قادة الإخوان غالبا، وقد تنتهي محاكمات مرسي بالذات إلى تبرئة تشبه تبرئة مبارك.
وقد حاول الرئيس السيسي حصار الأثر السلبي سياسيا لأحكام قضائية تتوالى، وأصدر قانونا يعطيه حق ترحيل الأجانب المحكومين أو المتهمين في قضايا منظورة جنائيا، تماما كما حاول حصار الأثر السلبي لحكم تبرئة مبارك سياسيا، وصدر عن الرئاسة بيان محسوب الكلمات بدقة، يمتنع عن التعليق عن الحكم القضائي، لكنه ينصف شهداء الثورة ومصابيها، ويؤكد على مكانتهم الجليلة في رفعة الوطن، والإيمان بأهداف ثورتي 25 يناير و30 يونيو، في بناء دولة الحرية والمساواة والعدالة ومحاربة الفساد، وأنه لاعودة إلى الوراء.
وقد بدا بيان الرئاسة في محله، وإن لم يكن كافيا لامتصاص الغضب الشعبي، وهو ما دفع الرئيس السيسي إلى إعلانات تكميلية لاحقة، ومن نوع إعلان نيته إصدار قانون يجرم الإساءة لثورتي 25 يناير و30 يونيو، وهو قانون يتفق تماما مع دستور مصر الجديدة، الذي يبني شرعية النظام السياسي على أساس الثورة وحدها، وبما يعني الإدانة القطعية الصارمة لفلول مبارك وفلول الإخوان، ويضعهما معا في كفة الثورة المضادة.
وقد لا يفاجأ أحد، إذا صدرت إحالات جنائية جديدة لمبارك وزمرته، ليس فقط بطعن النائب العام على حكم تبرئته أمام محكمة النقض، وهو طعن لا يفيد غالبا، سوى في استهلاك الوقت وتخدير الأعصاب، والنهاية تبدو معروفة سلفا، وقد لا تحقق معنى المحاكمة الجدية لمبارك، بقدر ما تحققها إحالات جنائية واردة بمقتضى قانون الكسب غير المشروع، إو إحالات واردة بمقتضى قانون إفساد الحياة السياسية، وهو القانون الذي أصدره المجلس العسكري تحت الضغط الشعبي في نوفمبر 2011، وحمل رقم 131 لسنة 2011، وهو في الأصل تعديل لـ»قانون جريمة الغدر»، الذي أصدرته ثورة 23 يوليو 1952، والقانون يتيح عزلا سياسيا ومدنيا شاملا للفاسدين من جماعة مبارك، ويقضي بحرمانهم من الوظائف السياسية والتشريعية والإدارية، لمدة خمس سنوات على الأقل، وكان لافتا أن القانون ترك كحبر فوق الورق، وجرى تعطيله عمدا، ولم يتحرك بمقتضاه بلاغ واحد ضد أي أحد، رغم أنه يعطى النائب العام سلطة تحريك الدعوى من تلقاء نفسه، وهو ما لم يفعله النائب العام الأسبق عبد المجيد محمود، الذي عينه المخلوع، ولا فعله النائب العام طلعت عبد الله الذي عينه الرئيس الإخوانى المعزول محمد مرسي، ولا فعله النائب العام الحالي هشام بركات الذي عينه المجلس الأعلى للقضاء، وكأن ثمة تواطؤا على ترك رجال مبارك في حلبة السياسة، تورطت فيه سلطة الإخوان، كما تورطت سلطات أتت من قبلهم ومن بعدهم، تماما كما تواطأ الإخوان لمنع محاكمة مبارك بمقتضى قانون «محاكمة رئيس الجمهورية بتهمة الخيانة العظمى»، وهو القانون رقم 247 لسنة 1956، الذي رفض برلمان الإخوان تفعيله، تماما كما جرى وضع بلاغات اتهام مبارك بالخيانة في الأدراج.
والمحصلة السياسية استنزاف شعبية الرئيس السيسي، فالقضية أبعد من مجالات القانون وتلاعباته وثغراته وأحكامه، والأثر السياسي لحكم تبرئة مبارك هو الأهم، فمبارك يستحق سياسيا ما هو أكثر من حكم إعدام، ولو جرى إعدامه ألف مرة ما شفي غليل الشعب المصري، ولا أحد شغوف برؤية دم المخلوع يسيل، وقد أصدر الشعب المصرى بثورته حكما بإعدام نظام مبارك سياسيا، لكن الحكم لم ينفذ إلى الآن، ولا تزال أطقم مبارك تحاصر الرئيس السيسي، وتتآمر عليه بدعوى التقرب إليه، وتزور صورته وتحاول «تفليله» والإيحاء إليه بأن الحكم لا يكون بغيرهم، وأنهم الضمان لاستقرار واستمرار الدولة، وهذا ما يفزع الناس، ويدفع المناخ العام إلى المزيد من التشوش والحيرة، وتلقي حكم تبرئة مبارك كتأكيد على عودة نظامه، وتصوير السيسي كأنه «مبارك الأصغر سنا»، وهو ما يتفق عليه فلول مبارك وفلول الإخوان معا.
والكرة الآن في ملعب الرئيس السيسي، وهو وحده القادر على فصل الخيط الأبيض عن الخيط الأسود، فقد انتخبه الناس، ووثقوا بصدقه وإخلاصه وتجرده ونزاهته وكفاءته، وتقدمه لإنجاز تقوم به مصر الجديدة، وقد أثبت السيسي مقدرته الفائقة على الإنجاز، وحقق تطورا ملموسا في أسابيع وشهور قليلة، صنع به أسسا لسياسة عربية وإقليمية ودولية جديدة لمصر، تحاصر الحصار الذي أرادت واشنطن فرضه، وتصرف بذكاء وطني مع كيان الاغتصاب الإسرائيلي، قلص العلاقات الدبلوماسية معه إلى أدنى حد، وأبقى على كوة مناورة أمنية، استعاد عبرها وجود الجيش المصري في سيناء حتى حدودنا الدولية، وألغى عمليا مناطق نزع السلاح التي كانت مفروضة بملاحق ما يسمى معاهدة السلام، وأحدث روحا جديدة لإنقاذ الاقتصاد المنهك، تفتح الطريق لجلب استثمارات عربية وأجنبية طبقا لتخطيط محدد، والإنجاز القياسي لمشروعات قومية كبرى، وبثلاثية يلح عليها الرجل دائما، وهي الإنجاز في أقصر وقت وبأعلى جودة وأدنى تكلفة، وعلى طريقة تنفيذ مشروع توسعة قناة السويس وشبكات الطرق الحديثة، وبالاستناد أساسا لمقدرة وانضباط وكفاءة رجال وأجهزة الجيش المصري، ولا أحد منصفا يستطيع التنكر لكل هذا الإنجاز، وفي سياق حرب جارية مستعرة مع جماعات الإرهاب المدعومة دوليا، التي نثق تماما بمقدرة الجيش المصري على إنهائها لصالح المصريين، وأيا ما كانت التضحيات، فلا أحد بوسعه هزيمة مصر المستيقظة لها المجد في العالمين.
كل هذا الإنجاز يحسب للسيسي، لكنه لا يحمي بالضرورة من مؤامرات استنزاف شعبية الرئيس، وفي المدى القصير بالذات، فهذه الإنجازات قد لا تؤتي ثمارها سريعا، وقد يتأخر الاحساس الشعبي بالتحسن إلى سنتين، وهو ما قاله السيسي بصدق خلال حملته الانتخابية، وقد أثبت سواد المصريين مقدرتهم على التحمل واستعدادهم للصبر، احتملوا الغلاء الجنوني الناتج عن قرارات غير شعبية بتخفيض دعم الطاقة، وصنعوا إنجازا يشبه الإعجاز في تمويل مشروع قناة السويس بالاكتتاب العام، ووفروا في أسبوع قرابة العشرة مليارات دولار، وأثبتوا أنهم «المستثمر الأعظم» في صناعة مستقبل مصر، دفع الفقراء والطبقات الوسطى فواتيرهم كاملة، وعندهم المقدرة على صنع المزيد من المعجزات، وصيانة الأمل في انقاذ البلد، لكن ثمة ما يحبط، ويثير مشاعر اليأس مجددا، وهو ما يرونه من «حال مايل»، ومن بقاء تحالف البيروقراطية الفاسدة ومليارديرات النهب معززا مكرما، ينعم بما سرق، ويتطلع لأخذ المزيد، ويسعى للتزاوج الحرام مع دوائر وأجهزة بعينها في السلطة، تريد إعادة انتاج ما كان، وحصار الرئيس، الذي لا بديل آمنا عنده في ما نقدر، سوى إعلان انحياز يشفع الإنجاز، وتحطيم تحالف المماليك الموروث من عهد مبارك، وحفظ منسوب الأمل الذي ميز شعبية السيسى، والرد السياسي المناسب بالإجراءات الحاسمة على بؤس محاكمات التبرئة المجانية.

القدس العربي