حين يعلن حيدر العبادي، رئيس وزراء العراق، عن وجود 50 ألف « فضائي» في الجيش، نتيجة أول تدقيق سريع في سجلات وزارة الدفاع، فأنه يشبه، في كشفه، ذلك القائل بان للسمك رائحة عفنة بعد تركه في العراء مدة اسبوع.
تلقفت التصريح اجهزة الاعلام. تسلق التصريح عن مخلوقات الحكومة العراقية «الفضائية» قائمة الاخبار الاكثر قراءة في الصحافة العربية والعالمية متجاوزا بذلك تنظيم الدولة الأسلامية وضحاياها، والقاء القبض على زوجة خليفة الدولة الاسلامية السابقة أو الحالية، بل وحتى مراسيم تشييع الصبوحة صباح بالرقص والموسيقى.
«الفضائيون»، لمن لم يسمع بهم بعد، هم موظفو ومستخدمو حكومة «العراق الجديد»، غير الموجودين، فعليا، بل يتقاضى المسؤولون عن وجودهم الوهمي، الرواتب والمخصصات الشهرية بالملايين. وقد يكون تعبير «فضائي» مرادفا ساخرا أكثر قربا للشارع العراقي من تعبير «إفتراضي» الذي يطلق على شخصيات برامج الإنترنت ذات الأسماء والصفات والقدرات المتنوعة. وقد استشرت ظاهرة الفضائيين هذه منذ ان اصدر حاكم الاحتلال العسكري الامريكي بول بريمر فتواه بمحاصصة الرئاسة ومؤسسات الدولة، بكاملها، طائفيا ودينيا وعرقيا، عند تشكيل مجلس الحكم، في العام الأول من الاحتلال. وتلقف أتباع بريمر، من ساسة العراق، الفتوى ليطبقوها بحذافيرها حتى بعد رحيله، لأنهم وجدوا في المحاصصة بوليصة التأمين المقدسة على مصلحتهم الشخصية والحزبية.
المفارقة في فضيحة الفضائيين المتداولة اعلاميا، الآن، هي انها ليست فضيحة، كما انها ليست خبرا بمعنى الكشف عن معلومة لا يعرفها أحد. انها، منذ ما يزيد على الثمانية أعوام، بشكل خاص، «سالوفة» (الحكاية المتداولة شعبيا بالعامية العراقية)، لا يكاد يخلو بيت عراقي من ترداد تفاصيلها بالاسماء والرواتب والمناصب، أما لأن ساردي السالوفة أنفسهم من الفضائييناو لأنهم يعرفون فضائيا، من الجيران والاقارب، أو لأنهم تضرروا من الظاهرة اذ تم طردهم من وظيفتهم واستبدالهم بفضائي، أو لأنهم لايزالون يحملون جينات أبونا جلجامش « هو الذي رأى كل شيء». «الفضائيون»، بالنسبة الى العراقيين، طبقة جديدة من المستخدمين والمأجورين، يتخللون كل مؤسسات الدولة من الجيش والامن والشرطة الى المؤسسات التعليمية والصحية والبلديات. أنهم، لكثرتهم، وسرعة انتشارهم، يشكلون معضلة استقرائية عند محاولة تصنيفهم، ماركسيا، ضمن نظرية الصراع الطبقي مثلا. هل هم من طبقة البرجوازية الصغيرة أم انهم من البروليتاريا الرثة؟ هل ينطبق عليهم هذا التصنيف اذا كانوا يتقاضون الراتب، كل حسب موقعه، بلا انتاج؟ هل هم نتاج طبيعي لنظام الراسمالية المتغولة أم انها توليفة الراسمالية – الأمبريالية – المتحالفة مع شريحة من سكان البلد المحتل حيث «التدنس قد بلغ حدا لم يعد فيه التحرر من طوق المستعمر .. أو أي نكوص الى الوراء غير ممكن»، كما يذكر المناضل الافريقي الجزائري فرانز فانون في تحليله لموقف الجزائري المتعاون مع المستعمر الفرنسي والمنعكس حتى على علاقة الأب بالابن.
انتشر هذا التدنس في جميع مرافق الحياة العراقية. ولواقام ابناء الشعب اجهزة رقابتهم سيوثقونه في أعداد المعلمين الفضائيين كما في أعداد الشرطة الفضائية، وفي عمال بلدية فضائيين ومقاولات بناء فضائية وتجهيز الزهور الفضائية لدوائر حكومية فضائية أو حقيقية، أو تقديم الخدمات الفضائية في المناسبات الدينية، بموازاة الشهادات الجامعية الفضائية لكثير من مسؤولي حكومات الإحتلال المتعاقبة، وبالتالي في التعيينات التي أوصلت عدد موظفي الدولة الى أربعة ملايين. ولا شك أن إندماج خبرات الجريمة الأمريكية والعراقية خلال هذه السنين قد أبدعت أشكالا جديدة من الفساد، ابسطها وجود الشخص، نفسه، في أكثر من منصب حكومي، مما يمنع إعتباره فضائيا، وإنما «تعدديّا» له وجود خرافي في الزمان والمكان.
لن تتسع المساحة لمحاولة الاجابة حتى على بعض الاسئلة، ولكن النظر في بعض فوائد «الفضائيين» للنظام الحاكم قد تساعدنا على فهم هذه الظاهرة، وربما، الأمل في تجنبها مستقبلا. أولا : انها المغذي اليومي للفساد الذي ينخر نظام «العراق الجديد». اذ يحتل العراق المرتبة 170 عالميا، من بين 175 دولة، أي لاتسبقه في الفساد غير خمس دول في العالم فقط، حسب تقرير منظمة «الشفافية الدولية»، الصادر منذ ايام.
ترجمة مفهوم الفساد اقتصاديا يعني توقّف التنمية وإنتفاء فرص العمل المنتج، اما ترجمته سياسيا فيعني غياب الكفاءة والمصلحة الوطنية مقابل شراء ولاء الاتباع طائفيا وعرقيا.
الترجمة المجتمعية للفساد هي حصيلة الفساد الاقتصادي والسياسي معا . حيث تصبح ممارسة الفساد والرشوة وكونها محمية من المساءلة والعقاب، أمرا مالوفا ومقبولا اجتماعيا حسب قاعدة «اذا لم اقبل الرشوة سيقبلها غيري»، أو «اذا لم ادفعها لن يتم تعييني».
كما يشكل اكتشاف الفساد في موقع ما، والسكوت عليه، اداة ابتزاز سياسي ومادي هائلة الربح. والخطوة الاولى في سيرورة الفساد والرشوة وتخريب المجتمع هي عندما يشرعن كبار المسؤولين نهب الاموال العامة تحقيقا لمكاسب شخصية. وهذا هو جوهر مايحدث في العراق اليوم في ظل الحكومة الحالية بكافة «مكوناتها».
فالقيم الاجتماعية والأخلاقية والدينية التي تربينا عليها مرة لكونها حراما وأخرى لكونها عيبا، باتت، في ظل النظام الحالي، مقلوبة راسا على عقب، وكل سياسي لديه ملف فساد يبتز بواسطته الآخرين ليبقى محافظا على منصبه او ليواصل تهريب الاموال المنهوبة الى شركات استثمار او بنوك أو نقدا بأكياس الى خارج الوطن، كما تم اكتشاف مايقارب المليار ونصف دولار، مهربة من العراق، في قبو في بيروت أخيرا.
واذا كان هناك من لايزال يصدق رطانة الغزاة بأن «العراق الجديد»، هو عراق حقوق الانسان، فعليه ان يراجع ادعاءات الكيان الصهيوني بالديمقراطية اولا، ورصد الخروقات الجسيمة التي يتعرض لها المواطن العراقي نتيجة الفساد والمحاصصة، بدءا من حق الحياة وحرية الحركة والراي الى قلة الخدمات الاساسية وتدهور الصحة والتعليم وتصاعد الاعتقالات والتعذيب، ثانيا. يلخص خوزيه أوغاز رئيس «الشفافية الدولية» العلاقة الوثيقة بين الفساد وحقوق الانسان ونوعية النظام الحاكم بقوله» ان الفساد المستشري لا يؤدي فقط إلى حجب حقوق الإنسان الأساسية عن المواطنين الأفقر، بل إنما يهيئ أيضاً لمشكلات في الحوكمة ولانعدام الاستقرار». مما يقود، في النهاية، الى استحالة فصل الارهاب بانواعه عن الفساد. خاصة في دولة ريعية غنية كالعراق، فهما وجهان لعملة واحدة .
ان العبادي حين «يكشف» عن وجود 50 ألف فضائي في الجيش في الأيام الاولى من حكمه، لايفعل ذلك حبا في النزاهة او المصلحة العامة، انما يحاول تحسين صورته وكأنه لم يكن ولايزال قياديا طوال حكم حزب الدعوة الذي بذرت وازدهرت في ظله ظاهرة الفضائيين. الأدهى من ذلك، أنه «بكشفه» عن الفضائيين انما يحاول اشغال الناس بالنظر باتجاههم بينما يقوم هو بفتح ابواب العراق على مصراعيها للاحتلال العسكري «غير الفضائي» ومنح قوات الاحتلال الحصانة لممارسة مايشاؤون في العراق أرضا وشعبا.