عندما ينشر هذا المقال تكون الجمعية العامة للأمم المتحدة قد اعتمدت أنطونيو غوتيريس بالتزكية، لمنصب الأمين العام التاسع والمرشح الوحيد لمجلس الأمن الدولي الذي توافق أعضاء المجلس الخمسة عشر عليه بدون تردد من بين عشرة مرشحين نصفهم من النساء.
هذا التوافق الذي ميز انتخاب الأمين العام يثير الشجن لأننا لا نراه مجسدا عندما يتعلق الأمر بسوريا أو فلسطين أو اليمن. إنها لحظة تاريخية نتمنى أن نراها في كثير من التحديات العديدة المطروحة على جدول أعمال المنظمة الدولية. هذه هي المرة الأولى في تاريخ المنظمة الدولية التي خضعت عملية انتخاب الأمين العام لمجموعة معايير دقيقة، بحيث لم يتقدم إلى المنصب الشاغر مع بداية السنة المقبلة أحد، رجلا كان أو سيدة، إلا وكان على مستوى عالٍ جدا من الخبرة والثقافة والحصافة والتجارب الدبلوماسية والمهارات اللغوية والخطابية وسرعة البديهة والمعرفة الدقيقة بالتحديات التي يواجهها عالم اليوم، في الميادين السياسية والأمنية والإنسانية والاقتصادية والبيئية والتنموية. ولو طبقت مثل هذه المعايير قبل عشر سنوات لما بلينا بمثل السيد بان كي مون الذي يفتقد معظم تلك المواصفات إن لم يكن كلها. ولا تعرفنا على أمين عام مثل خافيير بيريز دي كوييار الذي كنا نصفه بأنه كالماء لا لون له ولا طعم ولا رائحة.
هذه هي المرة الأولى التي خضع كل مرشح فيها لاستجواب متلفز يزيد عن ساعتين لممثلين من الدول الأعضاء في الجمعية العامة ومجلس الأمن والمجتمع المدني، الذي شارك ممثلوه في كافة المقابلات التي بدأت يوم 12 أبريل. كثير من المتابعين للانتخابات كانوا يتوقعون أن يكون المنصب من نصيب أوروبا الشرقية، لأنها المجموعة الجغرافية الوحيدة التي لم تتح لها فرصة شغل هذا المنصب العالمي الرفيع. كما أن حملات عالمية قوية حاولت أن تدفع باتجاه أن يكون المنصب هذه المرة من نصيب النساء، ولذلك كان عدد المرشحات يساوي عدد المرشحين طوال العملية الدقيقة والشفاقة لانتخاب أمين عام جديد. لكن النتيجة لم تأخذ لا بهذا ولا بذاك فكان الفائز رجلا ومن أوروبا الغربية. لكن مؤهلات الرجل والإجماع الذي حظي به أسكت كافة المنتقدين.
ألم يأت بعد دور النساء لقيادة المنظمة الدولية؟ لقد كانت المعايير الدقيقة السابقة هي التي حددت مسار الاختيار. ولو وجدت من بين النساء الخمس اللواتي بقين على القائمة من تستطيع أن تبزّ غوتيريس بخبرتها وعلمها ورؤيتها لمستقبل المنظمة الدولية لما كان اختيار رئيس وزراء البرتغال السابق والمفوض السامي لشؤون اللاجئين أمرا سهلا. الوحيدة التي كانت أقرب المرشحين إليه كفاءة السيدة البلغارية إيرينا بوكوفا، المديرة العامة الحالية لليونيسكو، لكن يبدو أن رسالة صامتة وصلت إلى المعنيين بالأمر أن اعتراضا أمريكيا (جذوره في إسرائيل) بانتظارها لأنها رحبت بانضمام فلسطين عضوا كاملا لليونيسكو وصنفت آثار بيت لحم والقدس وأريحا تراثا إنسانيا. وقد لقطت بلغاريا الرسالة متأخرة فزجت في اللحظات الأخيرة مرشحة ثانية هي كريستلينا غورغييفا، مفوضة الاتحاد الأوروبي لشؤون الميزانية والموارد البشرية، إلا أن دخولها المتأخر للسباق سهل على المجلس إلحاقها ببنت بلدها.
هذا لا يعني أن النساء الأخريات لم يكن مؤهلات، على العكس من ذلك فوزيرة خارجية الأرجنتين سوزانا مالكورا عملت في المنظمة الدولية برتبة وكيل أمين عام للدعم الميداني، ورئيسة وزراء نيوزيلندا السابقة، هيلين كلارك، تشغل الآن المدير الإداري لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وكذلك الدبلوماسية الكوستوريكية، كريستيانا فيغيرس، ورئيسة وزراء مولدوفا بالوكالة سابقا ناتاليا غرمان. وللعلم فكم تمنينا لو أن العرب رشحوا سيدات للمنصب، ليس لأنهن سيحصلن عليه بل من أجل العلاقات العامة وتحدي الصورة النمطية، ويخطر ببالي ثلاث سيدات مؤهلات جدا عرفتهن عن قرب على رأسهن الأردنية ريما خلف الهنيدي والمصرية فايزة أبو النجا والسعودية ثريا عبيد.
إن أي مقارنة بين المرشحات الخمس وغوتيريس تظهر أن الفروق كبيرة ولا تستطيع أي منهن أن تدنو من ميزاته، التي لم يستطع مجلس الأمن التعامي عنها فحصل في ست جولات تمهيدية على أعلى الأصوات في كل مرة، وأصبح تجاهل هذه النتائج أمرا عسيرا. وقف بعدها فيتالي شوركين الممثل الدائم لروسيا ورئيس مجلس الأمن ليعلن يوم السادس من هذا الشهر أن المجلس بعد الجولة السادسة من الانتخابات التمهيدية «اتفق على أن هناك مرشحا مفضلا لجميع الأعضاء اسمه أنطونيو غوتيريس». وهذا ليس انتقاصا من كفاءات الآخرين بل لأن غوتيريس تفوق عليهم جميعا، رجالا ونساء.
مؤهلات لا تتوفر إلا في غوتيريس
- الخبرة، لقد جمع غوتيريس العديد من المواقع الوظيفية الرفيعة. فقد كان أمينا عاما للحزب الاشتراكي في بلده البرتغال لمدة عشر سنوات ثم رئيسا للاشتراكية الدولية لست سنوات، ورئيس وزراء بلده لسبع سنوات ثم مفوضا ساميا لشؤون اللاجئين لعشر سنوات.
- التخصص في قضة اللاجئين، وهي مسألة تقف الآن على رأس اهتمامات المنظمة الدولية. فلو تقدمت انتخابات الأمين العام أو تأخرت ربما اختير مرشح آخرـ أما وقضية 65 مليون لاجئ ومشرد تشغل الرأي العام العالمي وتشير بإصبع الاتهام بالتقصير والعجز للمنظمة الدولية، فمن سيكون أفضل من غوتيريس للتصدي لهذا الملف، وهو الذي تعامل في بداية ولايته في مفوضية اللاجئين مع نحو 25 مليون لاجئ وتركها بتاريخ 31 ديسمبر 2015 والعدد يربو على الستين مليونا. كان غوتيريس ينتقل من مخيم لآخر ومن كارثة لجوء من صنع الطبيعة إلى كوارث لجوء من صنع الإنسان. كان دائما في الميدان فكسب سمعة عالية في المجتمع الدولي بسبب تفانيه وتواضعه ومصداقيته.
- الإدارة، كان غوتيريس يدير منظمة دولية كبرى تكاد تعادل المنظمة الأم. فمفوضية اللاجئين تعمل ميدانيا في 123 بلدا وبها 9000 موظف وبميزانية تقدر بعشرة مليارات دولار ناهيك عن ميزانيات الطوارئ. فمن من المرشحين أو المرشحات يقترب من مثل تلك التجربة؟
- دعم الاتحاد الأوروبي، من المعروف أن أكثر منطقة تأثرت بمسألة اللجوء هي بلدان الاتحاد الأوروبي التي لم تكن متوقعة مثل هذا التدفق في فترة وجيزة، بحيث دفع ببعض دول الاتحاد إلى مسلكيات عنصرية وتخبط في المواقف وانتهاكات للاتفاقيات الدولية. وحاول الاتحاد الأوروبي أن يلقي العبء على تركيا لإعادة اللاجئين إليها مقابل إعفاء الأتراك من تأشيرة الاتحاد، أوعلى اليونان البلد الذي تصرف بطريقة حضارية وإنسانية رغم صغره وقلة موارده ليثبت لبقية دول أوروبا أن الموقف الإنساني والصحيح لا علاقة له بحجم الموارد وعدد السكان ومساحة البلاد. كان غوتيريس المرشح الوحيد الذي ينتمي لأوروبا الغربية. أما بقية المرشحين الأوروبيين فينتمون لدول أوروبا الشرقية الصغيرة، التي لا حول لها ولا وزن ولا موارد، مثل مولدوفا وسلوفينا وسلوفاكيا وصربيا ومونتنيغرو. إذن كان غوتيريس الأنسب والأكثر تقبلا من لدن دول الاتحاد الأوروبي المتأثرة أكثر من غيرها بظاهرة تدفق اللاجئين والمهاجرين.
لقد جاء تصريح غوتيريس الأول بعد انتخابه مطابقا لما كان يعد به دائما أن «يظهر التواضع المطلوب لخدمة من هم بحاجة إلى الخدمة من المجموعات الأكثر هشاشة من ضحايا الصراعات والإرهاب وانتهاكات حقوق الإنسان والفقر». فقد ساوى بين من تقتل القاهرة معاقبة سعودية تكشف غضبا واسعا عهم الحروب من بلادهم ليتشردوا في المنافي وبين الهاربين من أنياب الفاقة التي تقتل بشكل بطيء موجع أكثر من الغرق في لج البحر.
تحديات عديدة أهمها تحرير الموصل
يبدأ الأمين العام الجديد عمله في بداية عام 2017 وسيجد بانتظارة سلة كبيرة من المشاكل والتحديات والمآسي التي لا تحتمل الانتظار. وتقف مأساة سوريا على رأس تلك القضايا العاجلة التي لا تقبل التردد والتسويف والعجز، هذا على فرض أن ما يجري الآن من اتصالات ومحاولات دؤوبة لحلحلتها ستنتهي إلى فشل كما انتهت اتفاقية الهدنة التي وقعها الاتحاد الروسي والولايات المتحدة في التاسع من سبتمبر الماضي وما لبثت أن فتحت أبواب جهنم على ما تبقى من حلب.
من الكوارث الإنسانية المقبلة ما يرافق عملية تحرير الموصل من أنياب الدواعش التي ستترك أكثر من مليون لاجئ ومشرد، وفي فترة قصيرة قد لا تكون المنظمة الدولية قادرة على استيعاب هذه العدد بسرعة. أضف إلى تلك المصيبتين ما يجري في اليمن وليبيا وما خلفته تلك النزاعات المتعددة الأطراف من مآسٍ إنسانية يصعب وصفها في عجالة.
أما التحديات غير السياسية وإن كانت مرتبطة بالسياسة أيضا فهي كثيرة لكن الإرهاب والتطرف وكراهية الأجانب والتغير المناخي والتنمية المستدامة والتعامل مع الكوارث الطبيعية والفقر والفقر المدقع وتمكين المرأة والعنف الجنساني والعنف ضد الأطفال تقف ضمن سلة التحديات التي سيرثها غوتيريس عن سلفه بان.
وعلينا أخيرا ألا نغفل ولو للحظة عن أم المصائب جميعا وهي القضية الفلسطينية وما لحق بالشعب الفلسطيني من أذى واقتلاع وتدمير وتطهير عرقي وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. فهل سيعيد غوتيريس إنتاج فشل سابقه بان الذي كادت لجنته الرباعية العتيدة أن تضع اللوم كاملا على الضحية؟ أم أن له رؤية مختلفة وقدرة على التحرك أوسع؟ خاصة أنه ليس مدينا لأحد لوصوله إلى هذا الموقع العالمي الرفيع، فهل سينتصر للشعوب أم يبقى أسيرا لإملاءات الدول الكبرى؟