ولد صلاحي.. رباطة جأش في أودية الفزع

أربعاء, 2016-10-19 00:56

خلافا لما تبادر إلى ذهنه، لم يدخل مركز الأمن لمجرد الرد على استجواب قصير، وإنما لكتابة الفصل الأول من قصة موغلة في الغرابة والفقد والوحشية، تتوزع أحداثها بين موريتانيا والأردن وأفغانستان وخليج كوبا.

حضر الشاب الثلاثيني إلى مباني الشرطة في نواكشوطصبيحة 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2001، وأنى له العودة لتوديع ذويه، فقد قررت حكومة بلده ابتعاثه هذه المرة إلى مدرسة التعذيب بعدما أوفدته سابقا إلى ألمانيا حيث تفوق في هندسة الاتصالات.

لعدة أشهر، لم تتسرب أي معلومات عن مصير محمدو ولد صلاحي، إلى أن كشف الإعلام الألماني أن الحكومة الموريتانية سلمته للأميركيين وأنه التحق بدورة تعذيب رهيبة في الأردن ومنها إلى قاعدة باغرام في أفغانستان، قبل أن يستقر في جحيم غوانتانامو.

يومها بدت قصة الرجل عنوانا لمفارقة كبيرة كونه الوحيد الذي ألقت به حكومته في المعتقل السيئ الصيت، بينما النزلاء الآخرون خطفتهم أميركا من أفغانستان وباكستان وبلدان أخرى في إطار ما تسميها محاربة الإرهاب.

وليست المفارقة في قرار التسليم فحسب، وإنما لكونه صدر من الرئيس معاوية ولد سيدي أحمد الطايعرغم أنه سبق أن تعرّف شخصيا على ولد صلاحي وأبدى ثقته فيه وانبهاره بتفوقه في هندسة الاتصالات.

تسليم ولد صلاحي جاء على خلفية أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، مع أنه خضع سابقا لتحقيق في ألمانيا وكندا واقتنعت سلطات البلدين بأنه قطع صلته بالتنظيمات المسلحة عام 1991 بعد عودته من أفغانستان حيث حارب الاحتلال السوفياتي لشهرين فقط ضمن العديد من الشباب العرب وبعلم من الأميركيين.

 

العذاب والهوان
لسنوات عديدة سامه الجنود سوء العذاب، فقد أدمى جسمه النحيل من الضرب والركل واستمتع الزبانية بمنعه من النوم والصراخ في وجهه والانتقاص من دينه والتهديد بإحضار والدته إلى المعتقل واغتصابها.

أوشك الرجل أن يخسر عقله لولا أنه اعتصم بإيمانه فعوضته قوة روحه ضعف بدنه وهوانَه على السجانين، وتمسك بالأمل في ربوع الألم، ولم يعد يتحسر على ضياع قدره ووجوده.

طرد ولد صلاحي اليأس من زنزانته ولم يستسلم لكونه مجرد كائن حبيس في أقفاص غوانتانامو يحمل الرقم 760 ويتعاقب الجلادون بالغدو والعشي على ضربه وتوبيخه.

وكما كان تسليمه مفارقة، قرر ولد صلاحي أن يكون مفارقة أخرى بمحض إرادته، فقد تمكّن من ناصية اللغة الإنجليزية من داخل السجن، وخاطب بها وجدان الإنسانية حول العالم.

كان ولد صلاحي أول نزيل في غوانتانامو يكتب مذكراته من داخل زنزانته، فعرّى بلغته الرشيقة الفظاعات التي طالته في السجن، وكيف أن الرحمة لم تجد لها مكانا في قلوب الجلادين.

يوميات غوانتانامو التي نشرت بالتزامن في عشرين بلدا، سلطت الضوء على محنة شاب باعه الموريتانيون وعذبه المصريون والأردنيون والأميركيون.

حروف ولد صلاحي المثقلة بالفقد والألم والضياع تنبعث منها روائح الموت والظلم ويعلو عبرها صراخ المعذبين في الزنازين.

لكن محتوى الكتاب لم يكن قاتما كله، فقد أضاء على الجانب المشرق في الولايات المتحدة حيث أكد تورع القضاء الأميركي عن اتهامه وتلفيق الأدلة ضده، وأشاد بتداعي المنظمات الحقوقية إلى نصرته.

 

شغور الزنزانة
التفاعل الإنساني الأميركي مع يوميات غوانتانامو قاد إلى شغور الزنزانة رقم 760 يوم السابع عشر من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، حيث هبطت طائرة تابعة للبنتاغون بمطار "أم التونسي" الدولي في نواكشوط تحمل ولد صلاحي.

شكر الرجل الرئيس الموريتاني الحالي والمنظمات الحقوقية، ثم دلف إلى منزل عائلته، لكن الأم التي ابيضت عيناها حزنا عليه لم تكن في استقباله، فقد أسلمت الروح إلى باريها.

لقد عكست يوميات غوانتانامو جنوح ولد صلاحي للصفح والتسامح، إلى حد أنه تمنى شرب الشاي مع جلاديه "حتى يتعلّم البعض من الآخر في جلسة بدون تعذيب".

لكن ولد صلاحي قد يخضع لضغط المنظمات الحقوقية ليقرر متابعة المتورطين في تسليمه واغتيال 15 عاما من عمره قضاها في الظلمات وتحت سياط الأغراب.

وإذا ما اختار محاسبتهم فلن تكون هناك عقبات كبيرة لأنهم غادروا السلطة جميعا، حيث يعيش ولد الطايع في المنفى منذ أن أطاح به العسكر عام 2005، بينما تقاعد المشرف على عملية التسليم مدير أمن الدولة آنذاك دداهي عبد الله ولم يعد يحظى بتقدير الوسطين الأمني والسياسي في البلاد.

أما مدير الأمن السابق العقيد اعلي ولد محمد فال فقد غادر هو الآخر السلطة وبات ضمن دائرة المغضوب عليهم من نظام الرئيس محمد ولد عبد العزيز.

 

المصدر : الجزيرة,مواقع إلكترونية