الضياع الفرنسي في المتاهة العربية

خميس, 2016-10-20 11:35
توفيق رباحي

المتابع للسياسة الدولية، في شقها الإقليمي الذي يخصنا، وفي الحد الأدنى، يستوقفه بلا شك الموقف الفرنسي مما يدور في منطقتي الشرق الأوسط وجنوب البحر الأبيض المتوسط.
اللافت في الدبلوماسية الفرنسية في هذا السياق أنها الحاضرة الغائبة. دائمة الحضور وغائبة التأثير. هي دبلوماسية الصف الثاني، وصاحبة مبادرات ملء الفراغ. 
باستثناء ليبيا منذ 2011 حيث بدت فرنسا صاحبة كلمة مسموعة، ولكن بلا حكمة، ولبنان الذي تدّعي احتكار «التخصص» فيه، تبدو الدبلوماسية الفرنسية متأخرة في باقي ملفات وأزمات المنطقة: ندوة بباريس بدعوة من الحكومة الفرنسية لبحث الحرب السورية. نعم، ولكن بعد فشل المساعي والمبادرات الأخرى. مبادرة فرنسية لحل النزاع الإسرائيلي الفلسطيني. نعم، ولكن بعد استقالة الأمريكيين وفشل الآخرين. مؤتمر دولي للمانحين في باريس. نعم، ولكن بعد فقدان مفهموم «المانحين» مغزاه وجدواه. دعوة فرنسية، ثم قمة دولية، لإنشاء اتحاد دول البحر الأبيض المتوسط. نعم، لكنه جنين وُلد ميِّتا.
يبدو الإخفاق الفرنسي والتمسك بالصف الثاني أكثر التصاقا بالرئيس الحالي فرانسوا أولاند. بيد أن الأمر لا يتعلق برئيس بعينه بقدر ما هو إخفاق دبلوماسية وتأخر دولة عن الركب، وإن بدا أولاند النموذج الصارخ.
لم يكن الرئيس السابق نيكولا ساركوزي «أشطر» من أولاند. كان سابقهما جاك شيراك أكثر كاريزما وقدرة على الإقناع، لكن زمنه، في المقابل، اتسم بأزمات تقليدية في منطقة الشرق الأوسط كالصراع الفلسطيني الإسرائيلي والوضع في لبنان. لم تتح فرصة حقيقية لاختباره. إذاً، ليس هناك ما يدعو للاعتقاد أن شيراك كان سيكون أفضل من الآخرين، على الرغم من الرصيد التاريخي والثقافي الذي تمتلكه فرنسا في المنطقة العربية، وعلى الرغم من شخصيته الجذابة والقوية.
كيف وصلت الدبلوماسية الفرنسية إلى هذا الحال. لم تكن فرنسا يوما صاحبة مبادرة وقيادة دولية. صحيح أنها قوة استعمارية سابقة وقوة اقتصادية حاليا، لكنها ظلت على امتداد الزمن هامشية التأثير في السياسة الدولية. ربما ماضي فرنسا الاستعماري ومعرفتها بالآخرين (ومعرفة الآخرين بها) عوامل أثّرت سلبا على دورها اليوم، بدلا من أن تفعل العكس. حتى عندما وقفت، بقايدة شيراك، في وجه احتلال العراق عام 2003، لم يحل موقفها دون تنفيذ المخطط الأمريكي البريطاني. ولم يغيّر تصلب شيراك وشخصيته المحترمة قيد أنملة في ما أراده الأمريكيون والبريطانيون.
قبل 2011 كانت الدبلوماسية الفرنسية دائما تابعة لقوى أخرى تؤثر بشكل أوضح وأخطر في السياسات الدولية. الحاصل آنذاك ان الصورة الفرنسية الحقيقية كانت مستترة وراء قوة الآخرين، وخاصة الولايات المتحدة وبريطانيا بدرجة أقل.
لكن الانسحاب الأمريكي وانكماش الدور البريطاني كشفا حقيقة التأثير الفرنسي شبه المنعدم لكونه مبني على تقليد الآخرين ومحاولة اللحاق بركبهم.
فرنسا تعجز اليوم عن ملء الفراغ الذي تركه الانسحاب الأمريكي. والحالة السورية أكبر دليل.
إذا ما حاولنا تحليل استمرار الإخفاق الدبلوماسي الفرنسي، يتحتم الرجوع إلى الرصيد السياسي لهذا البلد في المنطقة العربية. كانت فرنسا قوة استعمارية لجزء معتبر من هذه المنطقة، لكنها فقدت اليوم أدوات التأثير الحقيقي فيها، ولم يبق لها غير لغة تتراجع بسرعة في شمال إفريقيا ولبنان، وثقافة تتمسك بها نخبٌ محدودة عدداً وشبه منقطعة عن واقعها المحلي. 
صديق جزائري مثقف ثقافة أنكلوساكسونية ويقوم اليوم على مشروع لغوي وثقافي جاد وجديد في الجزائر، قال لي إن اللغة الفرنسية مرشحة للانقراض من الجزائر بحلول سنة 2030 لتحل محلها اللغة الإنكليزية. 
ربما يجب السؤال: هل امتلكت فرنسا يوما أدوات التأثير الحقيقي في المنطقة؟
الجواب لا. كانت فرنسا دائما جزءا من كتلة مؤثرة، وتلعب على ما يفيض من الآخرين كالولايات المتحدة، ولم تكن مؤثرة على انفراد.
وسيكرّس بروز «الدب الروسي» في المنطقة منطلقا من الأزمة السورية، بقاء الدبلوماسية الفرنسية على كرسي الاحتياط. أحد الأسباب أن الند الحقيقي لروسيا هي أمريكا ولا أحد غيرها. 
في «الأزمة» الأخيرة بين موسكو وباريس بسبب الفيتو الروسي في مجلس الأمن على مشروع قرار فرنسي حول حلب، لم يفهم العالم بوضوح هل كانت فرنسا تتصرف منفردة أم كانت تمثل العالم الغربي (الرأسمالي في فترة الحرب الباردة). في الحالتين لم توفق.
وربما حقَّ السؤال أيضا: أليست فرنسا ذاتها مهددة بالنسخة الأمريكية من العولمة وثقافة الاستهلاك التي تكرسها؟ المتابع للنقاشات السياسية والثقافية داخل فرنسا وعبر وسائل إعلامها، يكتشف بسهولة قلقا على الهوية الفرنسية، وذعرا بين حرّاس اللغة والثقافة الفرنسيتين. 
الضياع الفرنسي في متاهة العالم العربي مرشح للاستمرار طويلا لسبب آخر هو الوضع الداخلي في فرنسا. هي تعاني من تيه اليسار وفقدان اليمين الديغولي هويته بسبب محاولاته التماهي مع اليمين المتطرف. فرنسا اليوم بلا هوية سياسية: لا أولاند يساري صادق ولا ساركوزي يميني حقيقي. 
هذا التيه أصاب أيضا النخب الثقافية والإعلامية والسياسية، فغدت فرنسا مختَزَلة في صورة تتكرر لرئيسها يبحث عن زعماء ليصافحهم.