قرار اليونسكو حول الحرم الشريف

أربعاء, 2016-10-26 11:40
د.عبد الحميد صيام

ما أشبه اليوم بالبارحة. وكأن التاريخ يعيد نفسه. في 10 نوفمبر 1975 اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار 3379 الذي اعتبر الصهيونية شكلا من أشكال العنصرية. وقد صوتت لصالح القرار 72 دولة من بينها المكسيك والبرازيل ثم حاولتا بعد ذلك التملص من التصويت نتيجة التهديدات وإلغاء العديد من الصفقات. 
يوم 13 أكتوبر صوتت اللجنة الثقافية التابعة لمنظمة التربية والثقافة والعلم (اليونسكو)على قرار يعتبر أن الحرم الشريف والحائط الغربي للمسجد الأقصى المعروف بحائط البراق لا علاقة للديانة اليهودية بهما وإنما هي مقدسات إسلامية فقط. وقد صوت لصالح القرار 24 دولة من بينها المكسيك والبرازيل ثم حاولت الدولتان أن تتملصا من التصويت الإيجابي بدون أن يكون لهذا التغيير أي قيمة. المجلس التنفيذي لليونسكو صادق على القرار بدون عد الأصوات يوم الثلاثاء الماضي وبالتالي يدخل القرار حيز الإلزام القانوني. القرار كشف الباطل الصهيوني الذي يريد أن يفرضه على العالم حول المقدسات الإسلامية في القدس. وكما عملوا على تشويه الجغرافيا يعملون الآن على إعادة كتابة التاريخ وتسويق روايتهم على أنها الرواية الوحيدة والصحيحة ومن يخالفها يتهم بالإرهاب ومعاداة السامية. 
في قرار الصهيونية جن جنون إسرائيل حيث أصيبت أيديولوجيتها في مقتل. وقف السفير الإسرائيلي، حاييم هرتسوغ، ذاك المساء على منصة الجمعية العامة وقال بعصبية ظاهرة: «سنتعامل مع هذا القرار بهذا الشكل «، وقطع القرار قصاصات صغيرة ونثرها أمام جميع الحاضرين. جندت إسرائيل وعملاؤها كل قواهم لإلغاء القرار وقد تم لهم بالفعل ذلك بعد 16 سنة وبعد المتغيرات الكبرى التي حدثت سنتي 1990 و1991 أي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وحرب الكويت التي شرخت الأمة العربية من النصف. وقد وضع رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، إسحاق شامير، شرطا لحضور مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط في 30 أكتوبر 1991 إلغاء قرار الصهيونية وقبلت الولايات المتحدة الشرط. وبالفعل حضر الرئيس الأمريكي جورج بوش (الأب) بنفسه وقدم مشروع قرار يوم 16 ديسمبر 1991 يطالب بإلغاء القرار السابق واعتمد القرار الجديد 86/46 بـ 111 صوتا إيجابيا مقابل 25 صوتا سلبيا من بينها الجزائر والأردن ولبنان وقطر والسعودية وموريتانيا والإمارات والسودان وسوريا. وتفاديا للإحراج تغيبت كل من مصر والكويت والمغرب وتونس والبحرين وعمان وجيبوتي عن جلسة التصويت.
ردة الفعل على قرار اليونسكو كانت منفلتة من كل عقال فقد وصف رئيس الوزراء نتنياهو القرار بأنه «إنكار للتاريخ ودعم للإرهاب» وأن أنكار علاقة اليهود بـ»حائط المبكى وجبل الهيكل أشبه بنكران علاقة الصين بالسور العظيم أو مصر بالأهرام». كما أن السفير الإسرائيلي لدى اليونسكو أكد أن المديرة العامة لليونسكو، إيرينا بوكوفا، تعرضت للتهديد بالقتل لأنها أبدت تحفظا على القرار. وقال «إن الدول العربية تتصرف بطرق بلطجية بغيضة مع بقية دول العالم». 
وأريد أن أنبه من الآن أن إسرائيل مدعومة بالولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الغربية المنافقة لن يهدأ لها بال منذ هذه اللحظة وستستخدم كل قواها للعمل على إجهاض القرار وتفريغه من محتواه وطمسه وكأنه لم يكن ومعاقبة الدول التي صوتت لصالحه ومكافأة الدول التي صوتت ضده وعددها ست فقط. وقد يلقى القرار المهم مصير رأي محكمة العدل الدولية حول الجدار (2004) ومصير تقرير ديزموند توتو حول الهجوم على بيت حانون (نوفمبر 2006) وتقريرغولدستون حول حرب إسرائيل على غزة 2008/2009 وتقرير وليم شاباس (الذي أجبر على الاستقالة من منصبه قبل نشر التقرير) حول الحرب على غزة عام 2014. وللتذكير في الوضع القانوني لحائط البراق والقدس نود أن نسترجع بعض الحقائق التي يجب أن يتم إبرازها كلما كان هناك ضرورة.
أيام الدولة العثمانية كان يسمح لليهود كمواطنين عاديين أن يصلوا أمام الحائط على ألا يبنوا أي معلم قربه أو يتركوا في الباحة أي أثر. في عهد الانتداب البريطاني أحس المستوطنون الصهاينة بقوتهم بسبب دعم قوات الانتداب وشنق كل من يتعرض لهم بأذى. وكنوع من اختبار القوة قامت الميليشيات الصهيوينة بالتظاهر أمام حائط البراق يوم 9 أغسطس 1929. وكانت تهتف «هذا الحائط حائطنا». فانفجرت الجماهير العربية غضبا في أنحاء البلاد وبدأت الاشتبكات التي أودت بحياة 116 فلسطينيا و 133 يهوديا عدا عن مئات الجرحى. اعتقلت السلطات البريطانية 900 فلسطيني وحكمت على 27 منهم بالإعدام ونفذ بالفعل يوم الثلاثاء بحق الثلاثة العظام فؤاد حجازي ومحمد جمجوم وعطا الزير بتاريخ 17 يونيو 1930 الذين خلدهم الشاعر إبراهيم طوقان في قصيدته «الثلاثاء الحمراء» وخلدهم شاعر فلسطين الشعبي نوح إبراهيم في واحدة من أروع قصائد الرثاء التي تبدأ «من سجن عكا طلعت جنازي محمد جمجوم وفؤاد حجازي».
حاولت دولة الانتداب أن تجري تحقيقا في الموضوع لكنه لم يُـقبل لأنها كانت طرفا في الجريمة فأرسلت عصبة الأمم وفدا دوليا مكونا من ثلاثة خبراء قانونيين غير بريطانيين هم: س. فان كامبن وشارلز بارد وإليل لوفغرن. أدرك آنذاك الحاج أمين الحسيني أهمية التحقيق وأن المسألة أكبر من أن تترك للفلسطينيين وحدهم فقرر دعوة كبار العلماء والمختصين من العالمين العربي والإسلامي. وقد مثل أمام لجنة التحقيق كل من: فايز الخوري وفخري البارودي من سوريا، أحمد زكي باشا ومحمد علي علوبة باشا من مصر، صلاح الدين بيهم والدكتور أسد رستم من لبنان، مزاحم الباجه جي من العراق، أحمد باشا الطراونة من الأردن، هلالي محمد بن طاهر من المغرب، محمد علي من الهند، رضا توفيق من تركيا، مهدي مشكي من إيران الشيخ عبد الغفور من أفغانستان وأبو بكر الأشعري من أندونيسيا. وقد أجمع هؤلاء العلماء أمام اللجنة أن مرجعية الحقوق في الأماكن المقدسة الإسلامية تعود حصرا إلى الهيئات الإسلامية الشرعية ولا حق لأطراف غيرها البت في الموضوع أو التصرف فيها. وقد أبرز الحاضرون الوثائق العديدة التي تظهر أن لا أساس لمطالب اليهود في الأماكن المقدسة كما كانت في عهد الانتداب. من جهتهم أقر اليهود بأن حائط البراق وقف إسلامي، ولكنهم رأوا أنه من نوع الأملاك الربانية ولا ينطبق عليه مفهوم الملكية العادية وطالبوا بالإعتراف بحق اليهود في ممارسة طقوسهم عند الحائط. ولم يتطرق وفد اليهود لا من قريب ولا من بعيد لقضية الحرم الشريف لأن وضعه لم يكن مسألة خلافية.
نشرت اللجنة تقريرها المفصل عام 1930 بعد الاستماع لمداخلات الأطراف وحججهم. وجاء فيه أن «ملكية حائط البراق تعود للمسلمين وحدهم وأنه وقف إسلامي لكونه جزءا لا يتجزأ من حائط الحرم الشريف الغربي. كما تعود للمسلمين وحدهم ملكية الرصيف الكائن أمام الحائط وأمام المحلة المعروفة بحارة المغاربة مقابل الحائط». كما أقرت اللجنة بحق اليهود في «الصلاة الفردية» بدون أن يعني ذلك حقا عينيا في الحائط. وأشارت اللجنة إلى عدم جواز المظاهرات قرب الحائط أو النفخ في البوق. وجاء في قرارات اللجنة أيضا أنه لا يجوز لليهود أن يحضروا معهم أثناء صلواتهم الفردية أي «أدوات عبادة أو وضع مقاعد أو سجاد أو كراسي أو ستائر أو حواجز أو أي خيمة جوار الحائط لأنه ملك للمسلمين».
الوضع القانوني للحرم الشهير هو الوضع القانوني للقدس نفسه الذي نص عليه قرار الجمعية العامة 181 الصادر بتاريخ 29 نوفمبر 1947 المعروف بقرار التقسيم حول إنشاء دولتين يهودية وعربية، واستثنى من ذلك القدس واعتبرها «كيانا منفصلا» تخضع لنظام دولي تديره الأمم المتحدة عن طريق مجلس الوصاية. وقد كلفت الجمعية العامة مجلس الوصاية الإعداد لخطة شاملة لإدارة القدس تشمل تعيين طاقم إداري وهيئات تشريعية وقضائية ونظام يدير الأماكن المقدسة بحيث يسهل الوصول إليها بدون أن يمس من «الوضع الراهن» الذي كانت تتمتع به. إسرائيل لم تحترم لا قرار التقسيم ولا قرار حق العودة 194 بعد أن أن قدمت التزاما خطيا بذلك. 
بعد احتلال ما تبقى من فلسطين عام 1967 أصبحت القدس الشرقية جزءا من المناطق المحتلة مثل هضبة الجولان وسيناء ينطبق عليها ما جاء في القرارين الشهيرين 242 (1967) و 338 (1973). ولكن لأن إجراءات إسرائيل بدأت مبكرا بتغيير معالم القدس ظلت الجمعية العامة ومجلس الأمن يذكران إسرائيل بمسؤوليتها القانونية كقوة احتلال تخضع لكافة البنود الواردة في اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949. وقد اعتمدت الجمعية العامة مجموعة من القرارات حول القدس ولكن دعني أعيد التذكير بأربعة قرارات مهمة اعتمدها مجلس الأمن حول القدس الشرقية تتعلق بانتهاكات إسرائيل المتكررة لوضع المدينة القانوني. 
– القرار 271 (1969) أدان المجلس قيام متطرف صهيوني بحرق المسجد الأقصى ودعا إسرائيل لعدم تشويه أو انتهاك حرمة المواقع المقدسة وطالب بحماية «المسجد الأقصى» ووقف كافة الأنشطة التي تعمل على تغيير معالم المدينة واحترام اتفاقية جنيف الرابعة. 
- القرار 298 (1971) ينص على «أن كافة الإجراءات الإدارية والتشريعية التي قامت بها إسرائيل في المدينة مثل التحويلات العقارية ومصادرة الأراضي غير شرعية» كما دعا القرار إلى وقف كافة الأنشطة والإجراءات التي تحاول تغيير تركيبة المدينة السكانية.
- القرار 476 (1980) الذي أكد مجددا أن «جميع الإجراءات والأعمال التشريعية والإدارية التي اتخذتها إسرائيل والرامية إلى تغيير معالم المدينة ليس لها أي سند قانوني وتشكل خرقا فاضحا لاتفاقية جنيف الرابعة المتعلقة بحماية المدنيين». كما أكد القرار أن «كافة الإجراءات التي تعمل على تغيير معالم مدينة القدس الشريف ووضعها الجغرافي والسكاني والتاريخي هي إجراءات باطلة أصلا ويجب إلغاؤها». 
- القرار 478 (1980) شجب سن القانون الأساسي الإسرائيلي الذي أعلن ضم القدس الموحدة إلى إسرائيل واعتبره انتهاكا للقانون الدولي وطالب جميع الدول عدم الاعتراف به.
آخذين بعين الاعتبار هذه الخلفية القانونية يأتي قرار اليونسكو منسجما تماما مع القانون الدولي ورافضا لتشويه التاريخ بعد ما قامت به إسرائيل من تشويهات جغرافية وعمرانية وسكانية وجيولوجية على الأرض في القدس وفلسطين. لكن القرار على أهميته يجب أن تتبعه حملة دولية تفند الادعاءات الإسرائيلية وتحاسب كل دولة تخالف هذه السياسة الرسمية لليونسكو والأمم المتحدة وتشجع كل الدول على الالتزام به فعلا لا قولا خوفا من أن يلقى مصير سلفه القرار المقتول 3379.