كانت الجماهير تلتف حول قادة كانوا محور الحركة السياسية والأحزاب. وكان هؤلاء يوحدون قطاعات من الجماهير, ولكن ضمن إطار عاطفي والتزام معنوي عام...
ومع دخول موريتانيا التجربة الديمقراطية الغير مسبوقة اختلطت الأمور جملة وتفصيلا على الفاعلين السياسيين وهم مجموعة فسيفسات من الأحزاب والحركات القومية والإسلامية والديمقراطية.وقد نتجت هذه التجربة عن مخاض عسير كاد يعصف بالبلد إلى المجهول لولا تدخل رئيس الجمهورية, وتقبل الفرقاء المشاركين لسياسة الواقع...
كنت مهتما بالحوار الشامل الأخير متابعا ومقوما لما يجري فيه ونتائجه..
وبينما كنت كذالك إذ أعلنت إذاعة فرنسا الدولية أنها ستبث مقابلة شاملة مع رئيس موريتانيا السابق العقيد أعل ولد محمد فال وبدافع الفضول كنت أبحث عن مضمون المقابلة وقلت في نفسي بما أن الرجل عنده تجربة سابقة وعضو فاعل في المعارضة المقاطعة قد يعطينا تصورا لمخرجات الحوار مبينا نقاط الاتفاق والاختلاف..؟؟
وكم كانت الصدمة عندما قرأت خلاصة المقابلة حيث بدأ يحاكم النوايا من قبل التشكيك في وعود رئيس الجمهورية بعدم ترشحه لمأمورية ثالثة وأنه لا يثق في هذه الوعود مبينا أن ذالك وان حدث فإنما لصالح من سيتم التحكم فيه و تقليم أظافره عن طريق جمعية وطنية تابعة للرئيس...
مضيفا أنه لايتوقع مشاركة أي طرف سياسي لديه قدرة على جمع المعطيات وتحليلها في انتخابات المجالس الجهوية والمحلية والتشريعية المقبلة، لأن الهدف الأبرز للنظام الحالي هو التأسيس لغرفة واحدة لديه فيها أغلبية مريحة من أجل تمرير مخططه الرامي للبقاء في الحكم لفترة أطول....
غير أن الخطورة بالنسبة لي تكمن عندما قال أن الدولة تضغط على الزعماء التقليديين مستغلة بذالك وسائل الدولة؟! وكأننا مجموعة قبائل يتحكم فيها أسيادهم بطاعة عمياء ..ودولة بهذه المواصفات لا تستحق المؤسسات الديمقراطية فأحرى أن تكون دولة مؤسسات !!
وفي الإذاعة الفرنسية نفسها يرد السفير الموريتاني لدي اليونسكو أحمد ولد أباه على العقيد أعل ولد محمد فال الرئيس السابق بقوله أنه لا يملك درسا في المجال الديمقراطي ليقدمه..!!
معللا ذالك بأن الرجل أمضى أزيد من عشرين سنة مديرا عاما لإدارة الأمن في البلاد وكان ممن يدوسون على الحريات الفردية..
مضيفا أن العقيد اعل ولد محمد فال حاول بكل الوسائل التهرب من احترام مدة الفترة الانتقالية إبان رأسته..
أما الدكتور محمد لمين ولد الكتاب السفير ورئيس جامعة نواكشوط سابقا فيرى في مقابلة مع هيبرس المغربية.. أن العقيد والرئيس السابق أعل لم يبدأ الديمقراطية في موريتانيا وليس صالحا لها لأن هذا الرجل كان همه الأساسي أن يعود إلى السلطة من جديد..
ولكنه سلمها لحكم مدني وحصلت مناظرات بين المترشحين أعقبتها انتخابات سلمها تحت الضغط مكرها لا بطلا، بدليل أنه جمع الناس في قصر المؤتمرات وقال لهم: (إن لم يُرض الناسَ أحدُ المترشحين يمكنهم أن يدلوا ببطاقة بيضاء وسأبقى في السلطة،) يعني كان يناور ويحاول أن يستمر في السلطة..لذا لايجب الاطمئنان إليه..
من المعلوم أن أي إصلاح يتطلب خطة مدروسة نابعة من الواقع المفترض ولهذا يجب علينا أن نطبع تصورا ونرسم له مطامح، ونخلق له اتجاه معين يهدف إلى التقدم ولكن هذا سيبقى عقيم إلا إذا تجاوزنا هذه الأمور إلى عقل المجتمع...
وليست الشائعات والأراجيف ومحاكمة النوايا التي تتخذها المعارضة مطية لها والتي كان آخرها المقابلة الأنفة الذكر بالحل الأمثل..
إن الإصلاح لا يمكن أن يتم بشكل فردي بل يجب أن يكون بالتشاور بين جميع الأطراف المكونة للدولة والراغبة في الحوار بجدية...
وليست المقاطعة التي انتهجها البعض خيارا صائبا لأنه تضعف الحجة وتبعد عن قواعد التأثير والمشاركة...
وهذا قد يرجح مايقال أن المعارضة المقاطعة للحوار والتي قرأنا بعض من آراءها آنفا كان كل همها هو السعي للحكم بدون الشعور بمسؤولية اتجاه الدولة والشعب...
علينا أن نتحاور ونتصارح لتقوية نسيجنا الاجتماعي ووحدتنا الوطنية وأن نرسم مستقبلنا ككيان تترصده المخاطر من كل مكان في ظل مناخ دولي وإقليمي متقلب..
فالمهم أولا وأخيرا هو موريتانيا التي أصبحت ساحة لصراع بعض القوى الدولية والإقليمية..
الجزائر والمغرب من جهة, وإيران والغرب من جهة أخرى, وهذا ربما يفسر الاهتمام الزائد الذي أعطاه المجتمع الدولي بمختلف فصائله لموريتانيا....
لكن الحقيقة أنه عندما يتعلق الأمر بالعلاقات الدولية يبرز شيء واحد وهو المصالح:
إن تاريخ الغرب_ منذ أن أصبح هذا المفهوم مفهوما سياسيا استراتجيا يكشف عن حقيقة أساس قوامها: مواقف متغيرة وثابت لا يتغير: إن موقف الغرب من العرب أو من الإسلام أو من الصين أومن أية دولة أخرى في العالم, موقف يتغير دائما, وقد يقفز من النقيض إلى النقيض إذا اقتضى الأمر ذاك,أما الثابت الذي يحكم تحركات الغرب وتغير مواقفه فهو(المصالح) ,ولاشيء غير المصالح فعندما تمس مصالح الغرب أو يكون هناك ما يهددها, تتغير المواقف في الحين...
إذا يتبين لنا مما سبق أن الغرب مصالح ولاشيء غير المصالح , وكل حوار معه أو تفكير ضده لا ينطلق من هذه الحقيقة, إنما هو انزلاق وسقوط في شباك الخطاب المغالطى التمويهي السائد في الغرب والهادف إلى صرف الأنظار عن (المصالح) وتوجيهها إلى الانشغال بما يخفيها ويقوم مقامها في تعبئة الرأي العام مثل الحريات,الثقافة, الديمقراطية... الخ.. وما دام الغرب مصالح ولا شيء غير المصالح...
فما هي المصلحة التي يريدها الغرب من هذه الالتفاتة الغير مسبوغة بشأن الموريتاني؟
إن الغرب اليوم يعانى أزمة خانقة وأي بلد توجد فيه ثروات طبيعية يعتبر ذا أهمية خاصة إذا كان يتميز بموقع استراتيجي مثل بلدنا, لكن ليس هذا هو ما يريده الغرب وحده, بل هناك بالإضافة إلى هذا أمور ينبغي الانطلاق منها لفهم حيوية الإقليم الموريتاني، أو الدولة الموريتانية ككيان قادر على ممارسة سلطته فوق أرضه..
فعلى مستوى شبه المنطقة تنظر (المغرب والجزائر) إلينا من خلال الدور الذي يمكن أن نلعبه في تسوية قضية الصحراء الغربية. وعلى المستوى الإقليمي تبرز أطماع الدولة الإيرانية في إيجاد موطئ قدم على المحيط الأطلسي وبالذات على تخوم العالم العربي أما على المستوى الدولي فينبغي النظر بجدية إلى القلق الأوربي والأمريكي من أن تتحول الشواطئ الموريتانية إلى وكر للقرصنة ولتصدير المهاجرين السريين أو أن تتحول صحاريها الوعرة إلى إمارة إسلامية للقاعدة في بلاد المغرب العربي...
وهذه المصالح المشتركة بين جميع الأطراف هي ما يفسر هذا الاهتمام الزائد للمجتمع الدولي بموريتانيا وليست الديمقراطية وحدها كما يتصور البعض...
لذا يجب علينا أن نتكاثف معارضة وموالاة دولة وشعبا وان نقوي من جبهتنا الداخلية وأن نتقن قواعد اللعبة وأن نفتح أعيننا لما يحاك لنا, ليس في الديمقراطية ودولة المؤسسات فقط, بل أكثر من ذالك التنمية الاقتصادية الشاملة..
ولذا يجب أن نعول على مخرجات الحوار وأن نأمل لهذه الدولة الفتية أن تقوم من جديد نحو مستقبل واعد ..
وليس من المنطقي أن نهتم في الوقت الحالي لمن يسفهنا ويجعل منا قبائل تشترى ذممها مستخدما في ذالك الشائعات والأراجيف والتهكمات المقرضة التي لا تقدم ولا تؤخر...