يقول محمود درويش في كلمات معبرة عن كثير من الأشياء في واقعنا، «كم كذبنا حين قلنا نحن استثناء..»، بالطبع يمكن أن تكمل معه وهو يتحدث عن الود في التعامل مع العدو والقسوة في التعامل مع الصديق ليكتمل المشهد، ولكن في تلك الحالة يعد تصور الاستثنائية والإصرار عليها كافيا لتأكيد المفارقة. فمع إعلان ملخص التقرير الأمريكي الصادر عن الكونغرس الخاص بالممارسات التي اتبعتها وكالة المخابرات الأمريكية في التحقيقات التي قامت بها بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، وما شاب تلك الممارسات من تجاوزات لحقوق الإنسان أو التعذيب، سارع البعض للحديث عن فرحتهم بالكشف عن الوجه القبيح لأمريكا، والسعادة لافتقادها للقواعد الأخلاقية اللازمة لمحاسبة غيرها من الدول أو مطالبتهم بالديمقراطية. وبدت بعض الأنظمة المعروفة بسجلها في التعذيب وانتهاكات حقوق الإنسان سعيدة وهي تندد بأمريكا وتطالب برد فعل دولي حاسم وتحقيقات وعقوبات لتلك الجريمة التي لا تغتفر، هي جريمة حقا، ولكن هل تلك هي نهاية القصة.
بعيدا عن التقرير نفسه، يبدو المشهد أشبه بفيلم هزلي في عمل مسرحي يصر فيه الجلاد على لعب دور الضحية من وقت لآخر خلال العرض، رغم أن المشاهد يعرف حقيقة تلك الشخصيات في الحياة العادية بعيدا عن الأقنعة المؤقتة. يبتعد البعض عن روح الموضوع للتركيز على الشكل، ولكن حتى في هذا التركيز المشوه يتم استبعاد الكثير من الحقائق، والاكتفاء بتقديم التقرير للمشاهد بوصفه جزءا من صراع انتخابي داخلي، وإضعاف للمطالب الأمريكية المتعلقة بحقوق الإنسان. يرسل البعض انتقاداتهم عالية، وتتفرغ برامج للبكاء على الديمقراطية الأمريكية، والحديث عن الصدمة ويتناسون ان هذا التباكي نفسه دليل على ما تمثله أمريكا من مكانه في مجال الديمقراطية والحقوق والحريات، بدرجة تجعل الحديث عن التعذيب الذي حدث، بما فيه الترحيل القسري والتعذيب بالوكالة، حدثا أسود ضمن أحداث أخرى بيضاء قد لا نجد مثلها في واقعنا المعاش.
يتناسى البعض عمدا أن مصر وغيرها من الدول توجد في التقرير بوصفها طرفا مشاركا في التعذيب بشكل مباشر أو غير مباشر، فهل كانت تلك الدول فاقدة الأهلية، أم كانت تتجاوز حقوق الإنسان لصالح أمريكا ومصالحها معها، في الوقت الذي تلتزم فيه بتلك الحقوق في ممارساتها اليومية، أم أنها كانت تقدم ما تجيد تقديمه وتمارسه في حياتها اليومية وضد مواطنيها أنفسهم، وهو التعذيب يتساوى في هذا متهم بالإرهاب ومواطن عادي وجد في المكان الخطأ في اللحظة الخطأ.
يتناسى هؤلاء عمدا أن الرئيس الأسبق مبارك ورئيس الوزراء أحمد نظيف، الذي قدم في صداره مشهد الإصلاح الليــــبرالي وقته، جزء من مشهد التعذيب نفسه، كما يرد من وقائع تعود إلى عام 2005، وقبل أحداث ســـبتمبر التي زاد التعذيب بعــدها وأصبح الطلب عليه مرتفعــــا بوصفه سلعة هناك من يجــــيدها في هذا العـــالم الذي يسحق العدل بحقارة كل يوم، كما يقول غسان كنفاني.
يتناسى هؤلاء أن مبارك ونظيف ووزير داخليته حبيب العادلي لم تصدر عليهم أحكام في تعذيب أو قتل المصريين، وصدرت براءة مبارك والعادلي في وقت قريب من تقرير التعذيب الذي يفتح المجال للتساؤل عن ضرورة محاسبة أمريكا ومن شاركها ومنهم مبارك ورموز حكمه.
يتناسى هؤلاء أنه في الوقت نفسه الذي يصدر فيه تقرير التعذيب وبراءة مبارك وحسين سالم وغيرهم من رموز الفساد والإفساد السياسي والمالي في مصر، يصدر حكم على طفل في العاشرة من عمره تقريبا بسبب سرقة خمسة أرغفة من الخبز لشعوره بالجوع، في قضية وحكم تحمل الكثير من دلائل العبث التي تحيط بالمواطن وتساعد في سقوطه في مستنقع الظلم الذي يصعب الخروج منه عادة، خاصة لمن لا تصل قضيته للضوء ولا يحصل على الاهتمام المناسب.
يتناسى هؤلاء أن التقرير يصدر في وقت تذاع فيه تسريبات تتعلق بجزء مهم من المشهد السياسي المصري، وهو القبض على الرئيس محمد مرسي ومكان اعتقاله ومدى قانونية ما حدث. ولكن بدلا من تعامل جاد يتناسب مع الحدث وتأثيره يتحدث البعض عن التسريبات من اللحظة الأولى بوصفها ملفقة، وإخوانية، وتطبيقا عمليا لما يحدث في مسلسلات الجاسوسية حين تسرق البصمة الصوتية، رغم ما يمكن أن يثيره هذا التفسير من تساؤلات على الكثير من التسجيلات التي استمع إليها المواطن في أوقات أخرى وطلب منه تصديقها بوصفها دليل خيانة أو عمالة للبعض.. وفي النهاية يحال ملف التحقيق في التسجيلات «المزيفة» الى القضاء العسكري في تناول يبدو محملا بالحكم قبل التحقيق.
يتناسى هؤلاء ان صدور التقرير، وبفرض أنه جزء من صراع انتخابي، يعبر عن أهمية وقيمة التنافس الحر في العملية الانتخابية التي يمكن أن تمارس دورا مهما في الرقابة وضبط وتوازن الأدوار داخل الدولة. واقع يصبح من الممكن فيه أن تكشف حقيقة، ربما يصعب الكشف عنها في سياق مختلف، ولنا في الثورة المصرية والإدلة الغائبة والبراءة القانونية في ظلها، مثال واضح على خطورة غياب التنافس والتنوع الحقيقي. وإن أخذنا بتحليل البعض للتسريبات التي تتم في مصر بوصفها جزءا من تنافس ما بين المؤسسات، فهو تنافس مؤقت مرتبط بصراعات قوى داخل تلك المؤسسات لا تهدف إلى تغيير قواعد اللعبة، بقدر ما تهدف لتحديد أدوار شخصيات معينة داخل اللعبة، وحدود تحركها بما يخدم الصورة الكلية وهي الحفاظ على الاستقرار العام لمؤسسات الدولة العميقة.
يتناسي هؤلاء سؤالا شديد الأهمية يطرحه التقرير في ظل الواقع المصري، وهو العلاقة بين التعذيب والأمن، وإلى أي مدى يساعد التعذيب في الحصول على معلومات لم يكن من الممكن الحصول عليها بدونه. وهنا تبدو القضية متشابكة، ففي حين يدافع البعض في الداخل الامريكي عن موقف الوكالة، بالتأكيد على حجم المخاطر وضرورة التعذيب ودوره في حماية أمريكا من حدث كبير مثل 11 سبتمبر. تؤكد تصريحات أخرى وشهادات لمعتقلين سابقين على أن التعاون كان أقل تحت التعذيب، وأن البعض كان يتعاون بشكل أفضل في غيابه. تظل العلاقة بين التعذيب أو تجاوزات حقوق الانسان والأمن ملتبسة على عكس ما تؤكد عليه الكثير من الأصوات في مصر، التي ترى أن الحرب على الإرهاب تقتضي التضحية بالحقوق والحريات، لدرجة مطالبة رئيس سابق لأكاديمية الشرطة بتعديل قانون الطفل الصادر عام 2008 حتى يمكن الحكم بالإعدام أو السجن المؤبد أو المشدد على الأحداث، ممن تتراوح أعمارهم بين 15 و18 سنة. ومع هذا التناقض في الرؤى تبدو القضية أوضح عندما تكون لدينا القدرة على الشعور بالصدمة لانتهاك حقوق الإنسان في مصر بدرجة الصدمة نفسها لانتهاكها في أمريكا، وأن تكون لدينا القدرة على تجاوز ازدواجية التنديد بالآخر، في الوقت الذي تزداد فيه المطالبة بالتضحية بالمزيد من الحقوق والحريات في الداخل.
في كل تلك التفاصيل الملتبسة يتناسى البعض وهم يتحدثون عن ضرورة إصدار مصر ومجلس حقوق الإنسان بيانات تنديد شديدة اللهجة، والمطالبة بمحاسبة المتورطين، ان هذا يشمل المتورطين من دول التعذيب بالوكالة بمن فيهم مبارك وبعض من حصل على البراءة من رموز حكمه. كما يتناسون التحديات الداخلية التي يتم فيها الحبس أحيانا بسبب شعار أو كلمة على مسطرة أو بالونة أو قميص. يقع التعامل المصري مع التقرير في جزء منه في إطار العبث الساخر على طريقة التعامل مع المظاهرات التي اندلعت من قبل في مدينة فيرجسون، رغم أن المثل المصري يحذر من إلقاء الطوب على بيوت الآخرين عندما يكون بيت الشخص نفسه من زجاج. وفي تلك الحالة لابد أن يكون في حساب المتحدث أن الطوب لابد أن يستهدفه لأنه ليس استثناء مهما كرر وصدق، لنتأكد مع درويش أن الكذب على النفس وتصديقها أسوأ من الكذب على الآخرين، ولكننا للآسف نجيد صناعة الكذب وتصديقه وصناعة المرايا التي لا ترينا إلا ما نرغب في رؤيته والميكروفانات التي لا تردد إلا ما نرغب في سماعه، ويكون على العالم أن يسمعنا ونحن ندين انتهاكاته وأن يسمعنا ونحن نصر على ضرورة ممارستنا للانتهاكات.