كما هي العادة، صحب عدد من الصحافيين الأتراك رئيسهم خلال زيارته لباكستان وأوزباكستان. في رحل العودة، 19 نوفمبر/ تشرين الثاني، قال طيب رجب إردوغان للإعلاميين الملتفين حوله في صالة الطائرة إن الشعب التركي يجب أن يتعامل مع مسألة عضوية الاتحاد الأوروبي بأريحية، وإن مسألة الالتحاق بأوروبا ليست نهاية العالم. ولم يتردد إردوغان في الكشف عن نواياه، مشيراً إلى أن تركيا قد تطلب عضوية منظمة شنغهاي للتعاون، التي تضم حتى الآن خمس دول، وتقودها الصين وروسيا. جاءت هذه التصريحات بعد أيام قليلة فقط من خطاب غاضب، هاجم فيه إردوغان رئيس البرلمان الأوروبي، مارتن شولز، ودعا إلى عقد شعبي حول عملية الانضمام للاتحاد الأوروبي، المستمرة، بلا أفق واضح، منذ عقود.
ثمة توتر متصاعد في علاقات تركيا بالاتحاد الأوروبي، أصبح أكثر حدة منذ فشل المحاولة الانقلابية في منتصف يوليو/ تموز الماضي. تقدمت تركيا بطلب الالتحاق بالسوق الأوروبية المشتركة (المنظمة الأم للاتحاد الأوروبي) في ستينات القرن الماضي. في 1999، صدق الاتحاد على الطلب التركي، إلا أن عملية التفاوض حول العضوية لم تنطلق إلا في 2005.
وبالرغم من أن عدداً من فصول التفاوض قد فتح بالفعل، فإن العملية تحبو بصورة بطيئة. وبالنظر إلى أن دولاً، في هذه الأثناء، في وسط وشرق أوروبا، أقل تقدماً على المستوى الاتقصادي، وأقل دمقرطة، وأضعف مؤسسات، قد اكتسبت حق العضوية، فالواضح أن أوروبا لا تريد منح تركيا الحق نفسه. الحقيقة، أن الموقف الأوروبي من تركيا لا يحتاج كبير ذكاء لاكتشافه. قبل سنوات قليلة، لم يخف الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي مشاعره، عندما قال إن أوروبا لن تقبل انضمام دولة من سبعين مليوناً من المسلمين. أما المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، فتعتبر أن السياسة الأوروبية الأفضل تجاه تركيا هي سياسة «لا عضوية ولا قطع للتفاوض حول الانضمام». بمعنى، إطالة العملية التفاوضية إلى أمد لا نهاية له، والمحافظة على ارتباط تركيا الدائم بالاتحاد، في الوقت نفسه. «تركيا من الأهمية بمكان بحيث لا يجب قطع صلات أوروبا بها،» قالت ميركل.
اليوم، لا تخفي أنقرة غضبها من غياب التضامن الأوروبي الجاد مع الشعب التركي، عندما تعرضت البلاد لمحاولة انقلابية سافرة ووحشية من قبل تنظيم سري داخل الدولة والجيش، يقيم زعيمه في الولايات المتحدة، ويتجول عدد من أبرز قادته ومموليه في دول الاتحاد الأوروبي. ليس ذلك وحسب، بل أن أوروبا، التي كانت أعلنت حزب العمال الكردستاني تنظيماً إرهابياً، تغض النظر عن النشاطات التنظيمية، والإعلامية، والسياسية لكوادر التنظيم. «أوروبا تقوم بدور الراعية للإرهاب،» قال إردوغان قبل أسابيع قليلة. في المقابل، يندد البرلمان الأوروبي بعملية التطهير التي تتعهدها الحكومة التركية لمؤسسات الدولة من تنظيم غولن، المتهم بمحاولة يوليو/ تموز الانقلابية، ويهدد بتجميد طلب العضوية التركي في الاتحاد. طرح إردوغان فكرة عقد استفتاء شعبي حول مسألة العضوية، جاء، في الحقيقة، رداً على تهديد رئيس البرلمان الأوروبي تركيا بعقوبات اقتصادية إن لم تتوقف عن الإجراءات المتعلقة بعملية الكشف عن تنظيم غولن في مؤسسات الدولة ودوائر الإعلام، وما تراه أنقرة من تعامل أوروبي أبوي ومهين مع تركيا وشعبها.
يواكب هذا التوتر في علاقات تركيا بالاتحاد الأوروبي، مناخ أقرب إلى فقدان الثقة في العلاقات التركية ـ الأمريكية. ويمكن القول إن علاقات الدولتين لم تعرف لحظة أكثر سوءاً منذ رسالة جونسون الشهيرة في 1965، التي حذر فيها الرئيس الأمريكي أنقرة من التدخل في الصراع المحتدم، آنذاك، بين القبارصة اليونانيين والأتراك. في السادس من هذا الشهر، نوفمبر/ تشرين الثاني، قام الجنرال جو دانفورد، رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة بزيارة أنقرة، وأجرى مباحثات مع نظيره التركي، الجنرال خلوصي آكار، في لقاء استمر ما يقارب الخمس ساعات. ما رشح من اللقاء أن الأمريكيين تعهدوا بأن لا تقوم قوات الحشد الشعبي بدخول مدينة تلعفر، ذات الأغلبية التركمانية، في شمال العراق، بعد تحريرها من تنظيم «الدولة» (داعش)، وأن قوات الحزب الديمقراطي الكردستاني (السوري، المعروف بأنه أحد أذرع حزب العمال الكردستاني) ستنسحب سريعاً من مدينة منبج السورية، شرق الفرات، وأن القوات الكردية ذاتها لن يسمح لها بدخول مدينة الرقة العربية في شمالي شرق سورية، التي لم تزل تقع تحت سيطرة «داعش»، وأن الدور الكردي في عملية تحرير الرقة سيقتصر على عزل المدينة وحسب.
تتراكم الخلافات الأمريكية ـ التركية حول سوريا والعراق بصورة متزايدة منذ أكثر من أربع سنوات، ولا تتعلق بالموقف الأمريكي من الثورة السورية، وحسب، بل والسياسة الأمريكية في العراق، حيث يغض الأمريكيون النظر عن طائفية حكومة بغداد وتجاهلها حقوق العراقيين العرب السنة، وعن الدور الكبير الذي باتت تلعبه تنظيمات الحشد الشعبي الطائفية في مناطق الأغلبية السنية. في لقاء دانفورد بنظيره التركي، بدا أن الولايات المتحدة لم تظهر حماسة كبيرة لعرض تركيا المشاركة في تحرير الرقة، المشروط باستبعاد قوات الديمقراطي الكردستاني عن العملية كلية. وعندما طلب الأتراك مساندة جوية أمريكية لعملية درع الفرات، حيث تتقدم وحدات من الجيش السوري الحر، مدعومة بقوات تركية، نحو مدينة الباب، في محاولة تحرير الشريط السوري الشمالي غرب الفرات من القوى الإرهابية، اعتذر الأمريكيون بأنهم لا يريدون استفزاز روسيا ونظام الأسد. خلال الأيام القليلة التالية، بدأت حتى تعهدات دانفورد المتواضعة في التبخر.
في شمال العراق، أفادت تقارير بأن ليس قوات الحشد الشعبي فقط من يتقدم نحو تلعفر، ولكن أيضاً الوحدات الكردية التابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني (السوري)، التي تحتل سنجار منذ تحريرها من «داعش» في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015. وفي شمال سوريا، وبالرغم من إعلان الحزب الديمقراطي الكردستاني بدء إنسحاب وحداته من منبج وعودتها إلى شرق الفرات، أفادت تقارير بأن هذه الوحدات تتوجه، بدلاً من ذلك، نحو مدينة الباب، في محاولة لاستباق تقدم الجيش الحر باتجاه المدينة. ولأن هذه ليست المرة الأولى التي يتعهد فيها الأمريكيون بمغادرة وحدات الديمقراطي الكردستاني منبج، لم يعد من الممكن الحديث عن الكثير من الثقة المتبقية بين أنقرة وواشنطن.
الذين يقرأون العلاقات الأمريكية ـ التركية ببعض من حسن النية، يقولون إن السياسة الأمريكية في شمال العراق وسوريا تهدف إلى توريط تركيا في الحرب الدائرة في الدولتين الجارتين. أما من يحافظون على قدر صحي من سوء النية، فيرون أن سياسة إدارة أوباما، حتى في أيامها الأخيرة، تقوم على وجود قوى معادية لتركيا في الجانب العراقي والسوري من الحدود، تعمل على عزل تركيا كلية عن جوارها العربي.
ولدت الجمهورية التركية، كما هو معروف، من حرب استقلال باهظة التكاليف (1919 ـ 1922)، مثلت أول حركة تحرر وطني في القرن العشرين من السيطرة الغربية الأجنية. ولكن المفارقة أن من قادوا حرب الاستقلال، وأعلنوا الجمهورية على أنقاض السلطنة العثمانية، كانوا، أيضاً، معجبين بالغرب، ومؤمنين بأن تركيا الحديثة لن تتقدم بدون المضي على خطى الحضارة الغربية. وخلال ما يقارب المئة عام، حافظت تركيا الجمهورية على علاقات وثيقة ومؤسساتية بالولايات المتحدة ودول غرب أوروبا. هذه لحظة شكوك تركية غير مسبوقة في العلاقات مع الغرب الأطلسي، وستحتاج هذه العلاقات، ربما، إلى جهد أسطوري لإنقاذها من المزيد من التدهور.