«حريق الجزائر»: قبل ربع قرن نسأل أم نصمت؟

ثلاثاء, 2017-01-17 10:02
توفيق رباحي

في مثل هذا الأسبوع ـ 11 إلى 16 كانون الثاني (يناير) ـ قبل ربع قرن عاشت الجزائر أكثر ايامها غموضا وخطورة.
لا أذكر انني عشت خوفا أكبر من ذلك الذي لازمني طيلة ذلك الأسبوع. كنت أختنق. شيء ما خطير جدا يخص مستقبلي يتقرر من دون حتى أن أعرف ما هو. حتى في ذروة موجة القتل التي استهدفت الصحافيين والمثقفين في النصف الأول من ذلك العقد، لم اشعر بخوف كالذي شعرت به في ذلك الأسبوع الأسود. وفعلا كان أسبوعا غيّر حياة أجيال كاملة ـ إلى الأسوأ.
كان ذلك سنة 1992: كان قد جرى الدور الأول من الانتخابات النيابية، الأولى في تاريخ الجزائر بلا تزوير، ففازت الجبهة الإسلامية للإنقاذ بأغلبيتها المطلقة، والبلاد تنتظر الدور الثاني الذي ما كان ليغيّر شيئا من التوجه العام. اجتمع عدد من قادة الجيش والأمن بقيادة وزير الدفاع اللواء خالد نزار، وقرروا أن الواجب يملي عليهم وقف المسار الانتخابي فوراً وأخذ البلاد في اتجاه آخر. كان عليهم الاستعانة بشخصيات مدنية من الأوساط السياسية والثقافية والنقابية، فأوجدوا الواجهة المدنية لكل قراراتهم.
يوم السبت 11 كانون الأول (يناير) نشرت جريدة «الوطن» الناطقة بالفرنسية، وقد كانت واسعة الانتشار، تقريراً عن أن الرئيس الشاذلي بن جديد دُفع للاستقالة. قبل ذلك بأيام قليلة كنّا جميعا في قبضة الإشاعات والأخبار الزائفة. عمّ البلاد شعور عام بالخوف على ـ ومن ـ المستقبل، لكن لا أحد عرف له سببا حقيقيا. في مساء اليوم نفسه بث التلفزيون الحكومي صوراً مسجلة للرئيس يقدّم استقالته لرئيس المجلس الدستوري، عبد المالك بن حبيلس، الذي بالكاد تسلمها لشدة ما كانت يداه ترتجفان. 
الأربعاء من الاسبوع ذاته تأكد أن محمد بوضياف، وهو أحد أبرز القادة السياسيين لحرب الاستقلال، هو الرئيس الجديد للبلاد بعد قرابة 30 سنة قضاها في المنفى القسري.
الخميس 16، وهو اليوم المقرر للدورة الثانية من الانتخابات، قبيل العصر، حطت طائرة رئاسية صغيرة في مطار الجزائر الدولي وغادر جوفها الرجل الذي، آنذاك، لم يكن عند الجزائريين سوى اسم وتاريخ: محمد بوضياف.
بقية القصة معروفة. معقدة ومثخنة بالوجع والجراح.
رًبعُ قرن مرَّ على تلك الايام الحالكات. آن الأوان أن نسأل، وواجبنا أن نفعل: هل تعلمنا شيئا؟ 
يستطيع المرء أن يكتفي بسقف متواضع من التحليل، فيكرر مقولة عامة الجزائريين «هكذا ولا كثر» (الحمد لله انها كانت كذلك وليس أسوأ). وهو منطق له الكثير من القبول لدى الجزائريين، لأن الأمور كان يمكن أن تكون أسوأ وأخطر، والفاتورة أخطر وأثقل.
ويستطيع أن يرفع سقف التحليل والقول بصوت مرتفع جريء: نريد أجوبة. كل تلك التضحيات قادتنا إلى الحال التي عليها البلاد اليوم، لا صناعة تزدهر فيها غير صناعة اللصوصية والفساد والسطو على المال العام، مع رئيس عليل يقود البلاد من غرفة النوم بالبيجاما نصف غائب عن الوعي.
الجزائر لديها مشكلة عويصة مع تاريخها، البعيد والقريب. البعيد، وإن كان ملعوبا فيه وأخذ نصيبه من التزوير، أقل إثارة للخوف. أما القريب، المتعلق بالحقبة الاستعمارية بالخصوص، فبالكاد تجرأت البلاد على محاولة فتح بعض الثقوب في جدرانه العتيدة عندما حلت عليها تلك اللعنة في مثل هذا الأسبوع قبل 25 سنة، لتزيد على التاريخ القريب المخيف تاريخا آخر أكثر إثارة للخوف. 
مع تاريخ الحقبة الاستعمارية هناك ترسانة نفسية واخلاقية حوّلته إلى برميل بارود لا أحد يقترب منه خوفا من انفجاره.
ومع تاريخ التسعينيات، وبموجب الترسانة القانونية المتعلقة بالمصالحة الوطنية، لا يحق لأحد، ضحية كان أو شاهداً أو حتى مؤرخا وباحثا، مساءلة أحداث تلك العشرية، أو المتسببين فيها أو من يتحملون بعضا من المسؤولية السياسية أو الميدانية، وحتى الأخلاقية فيها. ناهيك عن رفع دعاوى قضائية محليا أو دوليا، فذلك عصيان، بل خيانة.
هل من العدل ترك الجزائريين بلا أجوبة عن أسئلة مشروعة وجادة، حتى وإن كان طرحها يؤلم ويخيف؟
مَن أدخلهم في تلك الحرب؟ لماذا؟ مَن قتل أولادهم؟ من شرّدهم داخليا وخارجيا؟ من أرجع بلادهم 100 سنة إلى الوراء؟ أليس من واجب مَن فعلَ بهم هذا كله ان يعتذر؟ الاعتراف بالخطأ فضيلة. ومعرفة حقيقة ما حدث حق من حقوق الضحايا، جميعا بلا اسثناء. والعدالة يجب أن تسود. أحد ما يجب أن يتحمل المسؤولية ويُحاسَب.
وفي المقابل، هل من الحكمة والعدل الرد على أسئلة من هذا الصنف، والسماح بانتشار الأجوبة، مع ما يحمله ذلك من مخاطر على استقرار البلاد الهش وهدوء المجتمع؟
لا أملك إجابات والجزائر بمنظومة حكمها البائسة ومجتمعها المستقيل عن كل شيء. في الحالتين مخيفة. «من هنا سخونة ومن هناك تحرق».. هكذا يقول المثل الشعبي الجزائري.

نقلاعن القدس العربي