بين كوبا وحركة حماس وتصحيح الأخطاء التاريخية

خميس, 2014-12-18 23:52
د.عبد الحميد صيام

من غرائب الصدف أن تتخذ المحكمة العامة للاتحاد الأوروبي يوم الأربعاء السابع عشر من الشهر الحالي قرارا بشطب حركة حماس من قائمة المنظمات الإرهابية، بعد 13 سنة من إدراجها بدون وجه قانوني، وفي اليوم نفسه يقرر الرئيس الأمريكي إنهاء الحصار الظالم على كوبا، الذي فرض عليها منذ عام 1961 وبعد فشل عدة محاولات لإسقاط النظام الاشتراكي فيها. وكما جن جنون نتنياهو واليمين الغربي وأنصار إسرائيل لقرار المحكمة الأوروبية، كذلك فعل أنصار الحزب الجمهوري في الكونغرس الأمريكي وجماعات الضغط الكوبية المعارضة لنظام كاسترو، واعتبروا هذا القرار خطأ تاريخيا لا يجوز اتخاذه، ما دامت كوبا تتبع النظام الاشتراكي وتنتهك حقوق الإنسان. لقد شرع صقور الحزب الجمهوري بالعمل على وقف مفعول هذا التحول الكبير الذي تجرأ عليه أوباما في السنتين الأخيرتين لحكمه، وبالمنطق نفسه يحاول نتنياهو وأنصار إسرائيل في الاتحاد الأوروبي أن يلغوا قرار المحكمة ويعيدوا حماس إلى القائمة، ولذا قررت قيادة الاتحاد الأوروبي وتحت الضغط الإسروأمريكي أن تستأنف القضية لتبقي حماس على قائمة الإرهاب، رغم أن كل شروط الإرهاب، التي لم تقنن لحد الآن في اتفاقية دولية ملزمة، لا تنطبق على حركة حماس.

كوبا ومسلسل العقوبات الطويل

منذ انتصار الثورة البلشفية في روسيا عام 1917 وقيام أول دولة اشتراكية في العالم على أساس العقيدة الماركسية، وضعت الولايات المتحدة الأمريكية في صلب سياستها الإستراتيجية منع انتشار الأنظمة الاشتراكية في المنطقة التي كانت تسميها «الحديقة الخلفية» للولايات المتحدة، وتقصد بها أمريكا الوسطى وأمريكا الجنوبية. بعد الحرب العالمية الثانية وخروج الاتحاد السوفييتي منتصرا ضمن دول الحلفاء والإقرار به دولة عظمى وندا للولايات المتحدة، بدأت تنتشر الأفكار الاشتراكية في العديد من الدول الفقيرة التي يحكمها عملاء للولايات المتحدة، وانتشرت الأحزاب الشيوعية في العالم بشكل سريع. وقد وصل العديد من هذه الأحزاب إلى السلطة، إما عن طريق الثورات الشعبية ضد قوى الاستعمار التي توصل إلى الاستقلال، خاصة في القارة الأفريقية (موزامبيق، زامبيا، أنغولا، غانا، زمبابوي) أو عن طريق الانقلابات التي يقودها ضباط ماركسيون (إثيوبيا، العراق، جمهورية الدومينيكان، غرانادا) أو عن طريق ثورات شعبية ضد الطغاة المحليين (غواتيمالا، كوبا، نيكاراغوا، السلفادور) أو عن طريق الانتخابات، كما حدث في تشيلي عام 1970. وسأحصر الحديث عن مسلسل العبث بدول أمريكا اللاتينية، مع أن كثيرا من دول أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط واجه المصير نفسه، مثل حكومة مصدق في إيران عام 1953 ومحاولة الإطاحة بحكومة سوكارنو في أندونيسيا عام 1958 وغيرها الكثير.
تعاملت الولايات المتحدة مع أنظمة الحكم في أمريكا الجنوبية المعارضة للسياسة الأمريكية والأقرب إلى النظام الاشتراكي، بتدبير الانقلابات أو تدريب المليشيات وزجها في حرب ضد النظام لإسقاطه أو تدبير الاغتيالات. وقد نجحت الولايات المتحدة عن طريق وكالة الاستخبارات المركزية المعروفة بـ»السي آي أيه»، ذراعها الأطول والأكثر بطشا، بإسقاط تلك الأنظمة الواحد تلو الآخر إلا النظام الكوبي بقيادة فيديل كاسترو. في غواتيمالا دبرت انقلابا دمويا ضد القائد جاكوب أربنيز عام 1955 واستبدلته بالضابط الدموي كارلوس كاستلو أرماس. وفي جمهورية الدومينيكان عملت الـ»سي آي أيه» مع المعارضة اليمينية على إسقاط الرئيس رفائيل توريخو وقتله في 30 أيار/مايو 1961. وفي البرازيل فوض الرئيس جونسون إسقاط الرئيس المنتحب جواو غولارت في آذار/مارس 1964. وفي تشيلي دبرت سي آي أيه انقلابا بتاريخ 11 أيلول/سبتمبر 1973 ضد الرئيس المنتخب سلفادور أليندي عن طريق الجنرال فينسنت بينوشيه، الذي أدخل البلاد في صراع داخلي حصد آلاف الأرواح لمدة 17 سنة. ودربت الولايات المتحدة مرتزقة الكونترا لإسقاط حكومة السنادانيستا في نيكاراغوا من 1982 إلى 1990 وغيرها الكثير.
لقد استطاع النظام الاشتراكي في كوبا أن يستمر ويصمد ضد كافة محاولات إسقاطه التي لم تتوقف، فقد بدأت جهود إسقاط النظام أيام الرئيس أيزنهاور واستمرت أيام الرئيس جون كيندي الذي قام بتفويض تدريب الكوبيين الذين هربوا من كوبا وإنزالهم في الجزيرة لإسقاط النظام، لكنهم فشلوا وقتل منهم 118 وجرح 360 وأسر 1202 في ما عرف تاريخيا بـ»عملية خليج الخنازير 17- 19 نيسان/أبريل 1961» التي شكلت فضيحة لوكالة الاستخبارات المركزية والسياسة الأمريكية. كما قامت وكالة الاستخبارات بمحاولات عديدة لاغتيال كاسترو تقدر بثماني محاولات، اعترفت بها رسميا، واحدة منها كانت عن طريق تسميم السيجار المفضل لدى كاسترو، وأخرى بحشو السيجار بالمتفجرات وهو ما يسمى بلغة اليوم «عمليات إرهابية». لكن كل تلك المحاولات فشلت فتحولت السياسة إلى التركيز على العقوبات الاقتصادية والحصار.

العقوبات وتحولها إلى حصار 
أخلاقي ضد الولايات المتحدة

فرضت العقوبات عام 1961 بعد فشل عملية «خليج الخنازير»، وقد تم توسيع سلة العقوبات بشكل متراكم لتشمل جميع المستوردات والتجارة والمساعدات الخارجية، ثم توسعت العقوبات لتشمل الطرف الثالث الذي يتعامل مع كوبا كالبنوك والشركات. قبل نهاية الحرب الباردة كان الاتحاد السوفيييتي يزود كوبا بالكثير من الاحتياجات الأساسية، كالبترول والمواد الغذائية والأجهزة والتكنولوجيا. وبعد انتهاء الحرب الباردة وتوقف المساعدات السوفييتية بدأت البلاد تشعر بحالة من الضنك الاقتصادي فاتخذت سلسة من إجراءات التقشف، لكن الشعب الكوبي ظل صامدا وملتفا حول قيادة فيديل ومن بعده رؤول كاسترو منذ عام 2008. 
بدأت كوبا منذ عام 1991 تعرض مسألة العقوبات على الجمعية العامة للأمم المتحدة كل سنة، وتصدر الجمعية قرارا سنويا يطالب الولايات المتحدة برفع العقوبات باعتبارها غير شرعية. وكان آخر تلك القرارات وعددها 23 قرارا قد صدر يوم 28 تشرين الأول/أكتوبر 2014 حيث صوت ضد العقوبات ولصالح رفعها فورا 188 دولة ولم تجد الولايات المتحدة من يقف معها إلا دولة واحــــدة، أترك للقارئ سهولة التعرف على تلك الدولة المارقة. تلك العقوبات الظالمة ارتدت إلى نحر الظالم ولم يجد أوباما مفرا من رفعها والاعتراف بكوبا وبنظامها الحالي وفتح السفارات المغلقة منذ عام 1961 والاتصال هاتفيا برؤول كاسترو لمدة 45 دقيقة، لطي صفحة سوداء من صفحات الظلم والقهر وغطرسة القوة.

حماس والإرهاب

اعترفت المحكمة العامة للاتحاد الأوروبي، ثاني أهم وأكبر محاكم الاتحاد، أن تصنيفها لحركة حماس منظمة إرهابية كان بناء على تقارير صحافية غير دقيقة، من دون تقديم أدلة قانونية، ولذلك قررت أن تشطب اسمها من قائمة المنظمات الإرهابية وتعطي الاتحاد الأوروبي شهرين لاستئناف القرار. وكم هذا الاعتراف مهين للدول التي ترفع شعارات سيادة القانون وفصل القضاء عن السياسة.
إن المقصود من تصنيف حركة حماس حركة إرهابية، خاصة بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001 هو نسخ غبي للرواية الإسرائيلية التي تصنف النضال الفلسطيني كله على أنه إرهاب. وكي لا يكون الفلسطيني إرهابيا بمفهوم إسرائيل، يجب عليه أن يسهر على أمن مواطنيها ومستوطنيها، ويمارس فقط الأكل والشرب والنوم، ومن حقها هي أن تعتقل كل من لا يحبها أو لا يتغني بديمقراطية الدولة ويهوديتها معا. لم يصنف حماس دولة إرهابية إلا إسرائيل والولايات المتحدة شريكتها الأكثر حماسا وحفنة من الدول لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، مثل كندا وأستراليا. 
فكيف تصنف الجماعات على أنها أرهابية وهي لم تمارس أي أعمال عنف خارج حدود فلسطين التاريخية، وتحصر نشاطاتها في مواجهة الاحتلال وتقديم العون للمتضررين من الشعب الفلسطيني؟ لقد خاضت الحركة انتخابات بلدية وتشريعية وفازت بطريقة نظيفة وشفافة على نحو ثلثي مقاعد المجلس التشريعي، بالإضافة إلى امتلاكها لشبكة من المنظمات الأهلية والإنسانية.
قد يختلف الواحد مع أيديولوجية حماس وبعض ممارساتها التعسفية ضد المخالفين لها في الرأي، لكن بمقارنة مسلكيتها في الحرب الأخيرة ومسلكية إسرائيل يُعرف من الذي يجب أن يدرج اسمه في قوائم الجماعات الإرهابية أو الدول الراعية للإرهاب، فمن بين 72 قتيلا في الجانب الإسرائيلي لم يكن هناك إلا أربعة مدنيين وطفل واحد والباقي كلهم من العسكريين قتلوا وهم في حالة اشتباك. أما من الجانب الفلسطيني فلا حاجة لإعادة تكرار عدد الضحايا من المدنيين الذي زاد عن 80٪. 
غطرسة القوة تعمي أحيانا عن رؤية الحقيقة كما هي. ولكن عندما تُخلع العدسة الاصطناعية الملونة ويرتد البصر العادي إلى المتغطرس ويرى الأشياء كما هي في الواقع، ثم يعترف بخطيئته فتلك فضيلة حتى لو تأخر وصولها 53 سنة في الحالة الكوبية و13 سنة في الحالة الفلسطينية.