انتشل الرئيس باراك أوباما تَرِكَتَه من الانحسار عبر البوابة الكوبية، بعدما استنتج أن المفاوضات النووية الإيرانية والعملية التفاوضية الفلسطينية– الإسرائيلية ستصطدمان بحائط الممانعة الجمهورية داخل الكونغرس وخارجه. أعلن إنهاء النهج القديم مع كوبا الشيوعية بعزمه على إقامة علاقات ديبلوماسية بعد انقطاع دام نصف قرن، مؤكداً أن «الخمسين عاماً الماضية أظهرت أن عزل كوبا لم يعط نتيجة، وحان الوقت لاعتماد مقاربة جديدة». جاءت الانفراجة التاريخية في العلاقات الأميركية– الكوبية عندما سمح باراك أوباما بإجراء محادثات سرية مع كوبا في كندا، لعب فيها الفاتيكان دوراً رئيسياً عبر البابا فرنسيس. أسلوب المحادثات السرية ليس غريباً عن الرئيس الأميركي، إذ إنه اتبعه لبدء محادثات نووية مع إيران لم تسفر عن نقلة نوعية جذرية في العلاقات الأميركية– الإيرانية لكنها بدأت بالتأكيد انفراجة تاريخية بعد انقطاع دام عقوداً.
الفارق بين ملف كوبا وملف إيران هو أن أوباما مرّر قراره بفك العزل عن كوبا قبل انتقال الأكثرية في مجلس الشيوخ ومجلس النواب إلى الجمهوريين أواخر كانون الثاني (يناير) المقبل. أما المفاوضات النووية الإيرانية، فإنها ليست قابلة للتمرير قبل ذلك الموعد، والكونغرس الجمهوري عازم على منع باراك أوباما من إنجاز ناقص يضمه إلى سيرته التاريخية، فلقد خلُص الرئيس الأميركي إلى الخضوع أمام الأمر الواقع في ما يتعلق بالمسألة الإسرائيلية، حيث لن يتمكن من تحقيق أي إنجاز، بسبب الارتباط العضوي بين إسرائيل والولايات المتحدة. وبما أن إيران معلّقة في موازين الإنجازات الممكنة، أتت كوبا لتسجل للرئيس الأميركي فرصة ربط اسمه بحدث تاريخي، في إجراء لاقى الترحيب ولاقى الانتقاد، لكنه لم يكن عابراً.
رئيس مجلس النواب الجمهوري جون بينر، وصف إعلان أوباما بدء تطبيع العلاقات مع هافانا بأنه «تنازل آخر في سلسلة طويلة من التنازلات الطائشة» لصالح «ديكتاتورية متوحشة». ورئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، الديموقراطي روبرت مينيندز ندد بما يقوم به أوباما تجاه كوبا، وقال إنه «يبرر السلوك الوحشي للحكومة الكوبية».
توقيت إعلان فك العزلة عن كوبا أثار انتقادات معارضي قرار أوباما، إذ إنه يتزامن مع انخفاض أسعار النفط إلى نصف ما كانت عليه قبل أشهر قليلة، ما يؤذي أهم داعمَيْن لكوبا: روسيا وفنزويلا، وعليه فإن إنهاء الحصار الاقتصادي وفك العزلة عن كوبا في هذا المنعطف يقدم إلى كوبا كاسترو حبل الإنقاذ بلا مقابل، بدلاً من استغلال الفرصة للربط بين رفع الحصار الاقتصادي وبين رفع القيود عن الحريات داخل كوبا ودفع حكومتها إلى احترام حقوق الإنسان.
قرار أوباما لاقى ترحيب كل من روسيا وفنزويلا، اللتين وجدتا في مقاربة أوباما الجديدة خشبة خلاص وحبل انقاذ لهما أيضاً، نظراً لأنهما في ضيقة اقتصادية ضخمة نتيجة انهيار أسعار النفط. وحرصت وزارة الخارجية الروسية على الإطراء على «الخطوة في الاتجاه الصحيح» والقول: «لا نعتقد أن فرض الولايات المتحدة عقوبات على أي دولة له أساس شرعي أو أسس قانونية».
المقاطعة الأميركية لكوبا فيدل كاسترو لم تنجح في إسقاط نظامه بالتأكيد، وسياسية عزل كوبا لم تثمر نتائج ملموسة لصالح الولايات المتحدة. البعض يقول إن الانخراط الاقتصادي هو الذي سيدفع كوبا إلى الانفتاح، والبعض الآخر يرد قائلاً إنه لو كان الانخراط الاقتصادي سيثمر انفتاحاً لكانت الصين تحوّلت دولة ديموقراطية.
المقاربة مختلفة ومشابهة في المسألة الإيرانية، حيث يقول البعض إن من الضروري إنجاح المفاوضات النووية، لأن ذلك يعزز قوى الاعتدال المتمثلة بالرئيس حسن روحاني، نظراً إلى أن الصفقة النووية ترتبط برفع العقوبات المفروضة على إيران، وهذا يقدّم جرعة دعم للمعتدلين.
وجهة النظر الأخرى تشير إلى أن رفع العقوبات سيعزز قوى التطرف ويخدم مشاريع قائد «فيلق القدس» قاسم سليماني للتوسع في كل من العراق وسورية ولبنان واليمن، فهذه القوى هي التي تتحكم بمفاتيح الحكم في طهران اليوم، وهي التي ستتلقى العائدات وتنفقها كما تشاء، وتأكيداً لسحب البساط من تحت أقدام قوى الاعتدال.
الذين ينتقدون سياسة باراك أوباما المتعطشة إلى الانفتاح على إيران بأي ثمن، يشيرون إلى أن الرئيس الأميركي استعجل الانفراج عندما بدأت العقوبات تجدي في إيران، ويضيفون أن الوقت ليس أبداً مواتياً للتنازل أمام طهران فيما هي تعاني في العمق من نتائج انخفاض أسعار النفط، وعليه فهذا وقت المساومة وليس وقت الانبطاح.
باراك أوباما يريد التنصّل من ضرورة مصادقة الكونغرس على أي صفقة نووية يبرمها مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية. وقد يلجأ إلى صيغة يزعم بموجبها أن الصفقة النووية مع إيران تقع تحت طائلة مجلس الأمن، إذ إن الأطراف التي تفاوض مع إيران هي الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن (الولايات المتحدة والصين وروسيا وبريطانيا وفرنسا). لن تمر هذه المحاولة بسهولة، لأن لدى الجمهوريين أدوات للتحدي، بما فيها انتهاك إيران قرارات مجلس الأمن يغض أوباما النظر عنها الآن، وأبرزها انخراطها عسكرياً خارج حدودها وبشخص قاسم سليماني، حسبما سجّل تقرير لجنة العقوبات التابعة لمجلس الأمن قبل أسبوعين تقريباً، وهو انتهاك لقرار بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وهذا سيعرقل ما في ذهن إدارة أوباما إذا ارتأت القفز على الكونغرس عبر وضع المسألة حصراً في إطار مجلس الأمن.
الإيرانيون يريدون إبقاء المسألة النووية خارج مجلس الأمن وفي الإطار الحالي، أي ضمن ما يسمى 5+1، الذي يضيف ألمانيا إلى الدول الخمس.
الذي يهم طهران بالدرجة الأولى هو رفع العقوبات مع الاحتفاظ بحق التخصيب وامتلاك القدرات النووية التي تقول إنها سلمية. المفاوضات النووية معقدة وستطول، لذلك لن يكون سهلاً أن تنتهي بإنجاز يزعم باراك أوباما أنه حدث في عهده.
المستبعد الآخر هو تحقيق إنجاز على صعيد المفاوضات الإسرائيلية– الفلسطينية، فقد استهل باراك أوباما ولايته الأولى باندفاع عارم لتسجيل ذلك الاختراق وحصل على جائزة نوبل للسلام بسببه، وها هو يقترب من إنهاء ولايته الثانية بلا نتيجة، بل بتملص من الاستحقاق.
وزير خارجيته جون كيري يريد التحرك بخطوات «مدروسة بعناية» حول مشروع القرار الذي يطالب بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي ضمن إطار زمني محدد. نظيره الفرنسي تحرك بإيحاء أن فرنسا جاهزة لملء الفراغ وتسلم مفاتيح قيادة العملية التفاوضية بدلاً من الولايات المتحدة. القيادة الفلسطينية وقعت في فخ نصبته لنفسها، وهي تتخبط بين خياراتها من دون أن تلتقط واحدة منها وتنفذها جدياً.
الديبلوماسية الفلسطينية في الأمم المتحدة تحركت بهدف البناء على فكرة تمديد الإطار الزمني للمفاوضات وربطه بإطار زمني لإنهاء الاحتلال. قررت الرهان على الاستعداد الفرنسي– البريطاني لدعم تحرك نوعي جديد، فقررت أن الوقت حان لإيقاف المفاوضات الثنائية بين فلسطين وإسرائيل لتحل مكانها مفاوضات عبر مؤتمر دولي يشبه مؤتمر مدريد.
الاستراتيجية الفلسطينية راهنت على وعود وتلميحات لتجد نفسها أمام وقائع السياسة الواقعية. عدّدت من خياراتها، ثم وجدت نفسها مقيّدة في خيارات لم تفعّلها فبدت كأنها تستخدمها للتخويف وليس كسياسة فاعلة، وعلى رأس تلك الخيارات الالتحاق بنظام روما لتصبح فلسطين طرفاً في المحكمة الجنائية الدولية، فيصبح في وسعها المطالبة بمحاكمة الاحتلال بصفته جريمة حرب.
إدارة أوباما حذّرت القيادة الفلسطينية من مثل هذا التوجه أو الأداء، وأوضحت لها عواقبه العملية المتمثلة بإجراءات عقابية مالية وسياسية على السواء.
ما لم يفعله الرئيس الأميركي هو إحداث النقلة النوعية الضرورية في الملف الإسرائيلي– الفلسطيني، وذلك لأنه تردد بعدما بادر علناً. في ملفي كوبا وإيران لجأ أوباما إلى المحادثات السرية، فأنجز ملفاً وهو يتلهف إلى إنجاز الآخر. في جيبه الآن كوبا، وفي ذهنه إيران، وفي تمنياته إبعاد الإحراج عنه فلسطينياً وإسرائيلياً.
إيلاف