إضافة إلى انعكاسات الهبوط الحاد في سعر برميل النفط، وتفاقم حجم الاستدانة، وارتدادات العقوبات الأمريكية والغربية في أعقاب ضمّ موسكو لشبه جزيرة القرم، وشحّ الدولار في الأسواق، تنتشر في روسيا قناعة بسيطة أنّ كلّ هذا الانهيار الكارثيّ لسعر صرف الروبل في مقابل الدولار، وما تبع ذلك من رفع المصرف المركزي الروسي لسعر الفوائد بشكل خانق، ما كان ليحدث، لولا القشّة التي قصمت ظهر البعير: الطفرة الاستهلاكية عشيّة الأعياد، وخصوصاً في أوساط النخب الاقتصادية الأوليغارشية، وبطانتها من الشريحة المرفهة في الطبقة الوسطى، والإقبال على تبادل السلع الباهظة الثمن والأجنبية، الأمر الذي زاد من حدّة الطلب على الدولار، في وقت مميت.
أيّاً تكن الدقّة الاقتصاديّة في هذا الكلام، وكونه سبباً واهياً أمام العناصر الأساسية، فالواضح أنّه يعبّر عن واقع روسيّ أساسيّ: الانفصال الكامل بين أنماط عيش واستهلاك الأوليغارشية والقطاعات المرفهة من الطبقة الوسطى المدينية، وبين ما تكابده أغلبية السكّان، بعيداً عن المراكز الاستهلاكية للعاصمتين.
وبطبيعة الحال، يمكن توظيف الاتهام للأوليغارشية والأعياد بأنّها تسببت في إشعال الفتيل، في خطابية شعبويّة، لصالح الطاقم الحاكم والجهاز، مع فارق أنّ الأوليغارشية الروسيّة، وبعد أنّ روّض فلاديمير بوتين بعض أجنحتها غير المنضبطة سياسياً، غدت أكثر من مطواعة للنظام الحاكم. وعلى الرغم من «الأصول السياسية» لجامعي الثروات الطائلة في روسيا، حيث أنّ جلّهم من المدراء الذين اقتطعوا من الخيرات الوطنية والقطاع العام ومؤسساته ومصانعه ما اقتطعوا، بل هم مستمرّون في الاقتطاع، بما يجعل من «الاقتطاعية» تعريفاً لعمليات الخصخصة في المجال الروسي والسوفييتي السابق، فإنّّ جلّهم قد تخلّى عن طموحات سياسيّة «برلسكونية» أو «خودروفسكية»، وفضّلوا الاتعاظ بحكمة من قبيل «إعط خبزك للجهاز ولو أكل نصفه»، ويفضّلون ترك رأس النظام يحذّر من تكرار «خيانة البويار» للقيصر، يوم استباح موسكو الغزاة البولونيون عام 1610، كأنّهم غير معنيين. غالباً ما يقارن كبار الأوليغارشيين في روسيا اليوم بالبويار، وهم كبار النبلاء في أيّام قيصرية الموسكوب. لكن «ديكتاتورية القانون» التي شهرها بوتين بوجههم، فطوّعت أكثرهم، ولفظت منهم المشاكسين، لم تدفع أحداً منهم لتحجيم شراهته، فهل يتحمّلون من ذنب؟!
يبقى أنّ ثمّة من يراهن ويكتب في الغرب عن احتمالات تفسّخ النخبة الحاكمة في الكرملين، واحتمالات انقلاب الجهاز على بوتين. لكن هذه تمنيات متسرّعة، ولو عجّنت بقالب رصديّ وتحليليّ. ليست مستحيلة طبعاً. لكنّها تنسى الطابع المركّب لشبكات أمان نظام حكم الرئيس فلاديمير بوتين: الجهاز الاستخباري، الأوليغارشيون المرتبطون بالجهاز، الأفكار القومية الروسية وحملتها، أصحاب الهلوسة «الأوراسية»، البطريركية الأرثوذكسية، القوات المسلّحة، واستئثار الحزب الشيوعي المدجّن باستقطاب النقمة الطبقة والشعبية وتحويلها الى مصفاته البرلمانية، في مقابل المزايدة على بوتين في الشوفينية القومية حين يتصل الوضع بالسياسة الخارجية.
أكثر من هذا: هناك مؤسسات طوّرت علاقة شراكة عضوية فيما بينها، بما يقوي من شوكة بوتين. مثلاً، التعاضد الحاصل بين الكنيسة الأرثوذكسية والجيش الروسي.
في بلادنا، هناك من لا يزال يعامل الجيش الروسي كجيش أحمر، وفي روسيا، الحصص الدينية المعطاة لجنود هذا الجيش الأحمر تأكل من حصّة الدروس العسكرية والتقنية!
في كتاب شيّق صادر قبل خمس سنوات للباحثة مارلين لارويل «باسم الأمة. القومية والسياسات في روسيا المعاصرة»، تفرد المؤلّفة فصلاً عن القومية في روسيا اليوم كشكل من أشكال التوافق الاجتماعي. تقول إن الكرملين لا يستخدم فقط الحمية القومية كأداة للسيطرة على الفضاء السياسي أو لمواجهة التحديات الخارجية، بل أنّ للحمية القومية وظيفة توافقية اجتماعية. صحيح أنّ روسيا غادرت حدّة الاستقطاب الايديولوجي داخلها في التسعينيات بين الشيوعيين والليبراليين، لكن الانقسام الاجتماعي رسخ بين «روسيات» مختلفة، تعيش كل منها في عالم ثقافي خاص بها، وفي مستوى اقتصادي بعيد عن الأخرى، خصوصاً الأوليغارشية التي تتباهى بأنّها تعيش في «عالم معولم» منفصل عن الناس الآخرين الذين يجرجرون وراءهم الزمن السوفياتي. التوافقية الاجتماعية التي تبثّها الفكرة القومية المحتضنة من أعلى، ومن الرئيس بوتين، تستهدف اذاً الوصل بين المواطنين، وبينهم وبين النخب الحاكمة. وفي تفسير لارويل أنّ ما يقلق النظام فعلاً هو مطواعية العدد الأكبر من السكّان له بطريقة خاملة ولا تفيده. يريدهم أكثر حيوية. يريد ممارسة فنون التعبئة، لكن الأهمْ هو التوفيق بين مطواعية الأوليغارشية وبين مطواعية الطبقات الشعبية، وفي مقدمتها الطبقة العاملة.
مطواعية الأو ليغارشية تتأمّن بعزوفها عن السياسة، إلى أن تبلغ من الشراهة لحظة مؤذية جدّاً لنظام محاصر بالعقوبات، والمضاربة النفطية.
ومطواعية العدد الأكبر من الناس، تكون بدلاً من ذلك، بإخراجهم من «سجن الاستهلاك»: بتوظيف الدين الكنسي كرأسمال رمزي، باطلاق العنان للنوستالجيا السوفياتية عسكرياً، بالشعبية الوطنية الاقتصادية، المتعلّقة بحماية الصناعات والشركات بازاء المنظومات المالية الخارجية، بإفراز تشكيلات شبابية مؤيدة للرئيس ومستلهمة من تجربة الكومسمول، بالخلط التلفيقي بين سلسلة الأمجاد، قيصرية أو سوفياتية، تاريخية أو أسطورية لا هم، مع أنّ الشعار المفضّل عند البوتينيين هو «من فلاديمير إلى فلاديمير»، أي من الأمير فلاديمير الذي اعتنقت مملكة روس القديمة المسيحية باعتناقه لها في القرن العاشر ميلادي، إلى فلاديمير بوتين «القيصر الأوراسي» .. ولا مكان في هذا الجمع لفلاديمير ايليتش لينين، الذي جدّد بوتين وأنصاره اتهامه بالخيانة الوطنية مع تجدد هذا السجال إبان الذكرى المئوية للحرب العالمية الأولى. فالحظوة التي يتمتع بها جوزيف ستالين كباني الدولة ومنتصر على النازية، لا يتمتع بها أبداً، الزعيم البلشفي الأول، لينين، الذي يبقى في نظر بوتين جاسوساً ألمانياً، أرسل لتمريغ اسم روسيا بالوحل في نهايات الحرب الكبرى، وأمام من؟ أمام ألمانيا التي كانت تتدحرج نحو الهزيمة.
هذه «التوافقية الاجتماعية» بالتحديد، هي التي تطايرت أشلاؤها في روسيا اليوم. انهيار الروبل قد يزيد النادي الحاكم وحدة، لكنه يعيد إلى الضوء هشاشة المجتمع الروسي نفسه. يمكن لبوتين أن يسترسل في الحديث عن المؤامرة الغربية المتواصلة لفتيت روسيا، وقد عرّج قبل أيّام على أضغاث أخبار حول نوايا وأطماع لسلخ سيبيريا عن الوطن الأم، لكن كل هذا لا ينفع إذا تعطّلت هذه الوظيفة الحيوية للاستنهاضية القومية: تأمين حدّ أدنى من التوافقية الاجتماعية. وهذا الكلام لا يقتصر على روسيا فقط. فهو سيطرح نفسه على كل المتأذّين من الهبوط الحاد في سعر برميل النفط، أي روسيا وإيران وفنزويلا والجزائر ونيجيريا.