لا أقصد في مقالي هذا أولئك الذين يهرجون ويرمون الكلام على عواهنه دون أن يقدموا دليلا واحدا على ما يقولون، ومن حيث يدرون أو لا يدرون يستخفون بعقل المخاطب ويتصورون انه لا يميز بين الغث والسمين وسيقتنع بكل ما يقولونه.
وانما كلامي حول أولئك الذين ينشرون مقالاتهم في الصحف والمواقع الالكترونية أو يظهرون في شاشات التلفزيون بعناوين فضفاضة كالخبير الاستراتيجي أو القيادي السياسي أو المحلل السياسي ثم يبدأون بكيل الاتهامات لايران.
المشكلة ان هؤلاء سيورطون أنفسهم بموقف حرج جدا، هم يدركون أكثر من غيرهم انه ليس من السهولة التخلص منه، الموقف هو ما سبب كل هذه الضغينة والعداء والحقد والكراهية لايران؟ أليست ايران تعلن انها عدوة أميركا واسرائيل، وسبب عداءها أن أميركا تستفرد بالقرار وتصادر سيادة واستقلال الدول الاسلامية ولايهمها سوى مصالحها، واسرائيل تضطهد وتظلم وترتكب المجازر ضد الفلسطينيين وتتآمر على بلدان المنطقة وتخل بأمنها واستقرارها.
اذا كان هذا ما تعلنه ايران فليس من المفترض ان يكون أي خلاف بين ايران وأي شخص حريص على هذه الأمة ولا يقبل بأي اعتداء تمارسه اسرائيل على الفلسطينيين، فيا ترى لماذا كل هذه الضغينة والعداء؟
المبرر المضحك الذي يسوقه أصحاب هذه الضغينة هو ان ايران كاذبة ومخادعة وانها تظهر العداء مع اميركا واسرائيل ولكنها في الحقيقة تبطن التعامل مع كليهما بل لديها اتفاق غير معلن على تقاسم النفوذ والتآمر على العرب والسنة و.. و..
ربما يؤمن بعض هؤلاء من اعماقه بهذا المبرر الذي يسوقه لأنه عندما ينظر الى واقع الكثير من بلدان العالم فضلا عن واقع بلدان منطقتنا ويرى انها لا تجرأ على رفض أي طلب لأميركا وفي نفس الوقت ترفض أي تحرك ضد اسرائيل، فكيف يمكن لايران أن تعلن رفضها للسياسة الأميركية منذ تأسيس جمهوريتها والى هذا اليوم، ومع ذلك لم تفعل لها واشنطن وتل ابيب شيئا بل ان نفوذ ايران في المنطقة وقوتها تزداد يوما بعد آخر.
هؤلاء عندما يرون ان دولا عظمى لا تنساق وراء السياسة الأميركية وحسب وانما لا تعترض حتى عندما تتجاوز واشنطن على سيادتها (كما حدث في قضية تجسس المخابرات الأميركية على هواتف رؤساء عدة دول) يبدأون يشككون بعداء ايران مع اميركا واسرائيل ويعتقدون انه مجرد سيناريو ليس الا.
لا شك ان بعض هؤلاء يؤمنون من أعماقهم بان االعداء الايراني – الأميركي ظاهري بينما الكثير ينفذون ما يطلب منهم والأوامر التي تصدر اليهم حرفيا، وهؤلاء لا يهمهم ان كانوا سيوقعون في تناقض أم لا يقعون وانما مصالحهم تقتضي القول ان عداء ايران لأميركا واسرائيل مجرد كذبة وخدعة ليمرر الطرفان مؤامراتهما في المنطقة.
الذي لا يعيش في ايران ربما لا يشعر بمدى التأثير السلبي للعداء الذي تمارسه أميركا ضد هذا البلد خاصة على الصعيد الاقتصادي، فالحظر الذي فرضه مجلس الأمن الدولي على ايران بتدخل مباشر من قبل الادارة الأميركية، والذي تبلور باربعة قرارات كبد ولا يزال يكبد ايران خسائر فادحة، ولا يمكننا ان نتصور مدى الكارثة الا اذا كنا على احتكاك مباشر مع الاقتصاد الايراني.
فبين ليلة وضحاها انخفضت قيمة العملة الايرانية الى 30 بالمئة من قيمتها، الأمر الذي أدى الى ارتفاع كل شيء في ايران الى ثلاثة أضعاف سعره، وبالتالي انعكس ولا يزال على كافة مناحي الحياة، قرارات الحظر شلت الاقتصاد الايراني، ولولا ان الخزنة الايرانية كانت فيها مقدار من العملة الصعبة جراء القفزات التي شهدتها اسعار النفط لحدثت كارثة حقيقية على الأرض، حتى ان الرئيس روحاني أعلن في بداية تسلمه للرئاسة انه استلم مقاليد الأمور ولم يكن في الخزنة شيء، وكانت الحكومة مدانة للمصرف المركزي مئات المليارات من الدولارات.
نماذج العداء الأميركي لايران كثيرة ولو استعرضناها كلها لطال بنا المقام، ولكن نورد نماذج صغيرة للحظر الذي تفرضه اميركا والأمم المتحدة على ايران، فالحكومة الايرانية بذلت مجهودا مضنيا من أجل القضاء على تهريب المحروقات الى البلدان المجاورة، وبما أن سعر المحروقات كان منخفضا في ايران ويعادل ثلث سعره في تركيا والامارات على سبيل المثال لذلك قررت الحكومة رفع سعره وبالفعل استطاعت ان تقضي على تهريبه ولكن انخفاض قيمة العملة الايرانية احبط كل الجهود التي بذلتها من أجل منع تهريب المحروقات.
الحظر المفروض اثر مباشرة على الصناعات الايرانية، فعندما منعت اميركا والدول الغربية تزويد ايران بالمكائن والآلات الصناعية المتقدمة اضطرت ايران الى اللجوء الى المكائن الهندية وغيرها اذ لا يمكن أن تستمر مصانعها بالعمل من دون مكائن وأدوات صناعية وأدواتها الاحتياطية، الأمر الذي ينعكس مباشرة على جودة الصناعات الايرانية.
الحظر الذي فرضته أميركا والغرب على البنوك الايرانية جعل من الصعب تعامل هذه البنوك مع العالم، فكانت ايران تبيع نفطها أو سلعها للدول من دون أن تقبض أي ثمن، فاضطرت الى التعامل بالمقايضة مع بعض الدول الآمر الذي أغرق السوق الايراني بالبضائع الاجنبية التي بدورها قضت على المصانع والصناعة الوطنية، ونتيجة لذلك ظهر جيش من العاطلين عن العمل.
كما قلت لو اردنا استعراض نماذج تأثير الحظر على الاقتصاد الذي يؤثر بدوره على سائر مجالات الحياة لطال بنا المقام، غاية ما في الأمر نريد أن نقول ان حربا شرسة تخوضها اميركا نيابة عن اسرائيل ولتركيع ايران وارغامها على ماتمليه عليها، وما البرنامج النووي الا ذريعة لتحقيق ذلك، ومن يقول ان العداء الأميركي-الايراني مجرد خدعة وكذبة فاما انه غير مقتنع بذلك، واما انه ينفذ ما يطلب منه، واما ان حقده وعداءه لايران لا يدعه يصدق بهذا العداء.