مشهد لا يمكن إسقاطه من أي ذاكرة. وقف الحاج حامد يعج على سيجارته بحماس ويحدثني بمشاعر فخر وزهو عن المصاعب التي قابلت عمدة مدينة مالبورن عندما شارك في وجبة طعام فلسطينية مفعمة بالأكلات الشعبية مثل المسخن والمقلوبة والملوخية.
العمدة قال مباشرة إنه لم يتناول هذه الكمية من الطعام مرة واحدة وفي أمسية واحدة معتبرا أن المذاق فيه عبقرية غريبة.
المشهد الآخر كان في ريودي جانيرو حيث تجمع 200 ألف برازيلي فلسطيني بحثا عن هويتهم بعد ثلاثة أجيال ولدت في المنفى.
الحاج حامد مسرور لأن زوجة ولده الأصغر السويدية البيضاء تجيد اليوم طهي ورق الملفوف بعد نحو 500 عاما من الغربة في السويد.
تلمع عيني البدوي المحنك وهو يسرد السر الذي اكتشفه عن كيفية احتلال فلسطين برواية بسيطة للأحداث تتعلق بالتاجر الإسرائيلي الذي كان يربح أكثر من العرب ويبيع أكثر منهم بتقنية مجهولة قوامها القروض والدين.
برأي الرجل غالبية التجار اليهود في فلسطين كانوا مدعومين من الوكالة اليهودية وتطالبهم بأن يتوسعوا في إقراض التجار الفلسطينيين مبالغ صغيرة من المال، وبواسطة هذه الوسيلة سيطر تجار الوكالة على الموانئ والساحل واستيراد وتصدير البضاعة ولاحقا السوق والمبيعات.
تبقى تلك نظرية بكل حال… الرجل فلسطيني بدوي من عرب الجليل غادر قسرا وطنه بالحرب وهو طفل إلى لبنان ثم إلى السويد وترأس وفدا من العائلة ضم بعض الأولاد والكثير من الأحفاد للمشاركة في مؤتمر الشتات الفلسطيني المنعقد مؤخرا في إسطنبول.
فكرة البدوي السويدي الفلسطيني بسيطة ومباشرة عن المؤتمر وقوامها الحرص بعد أن تحسنت أحوال عائلته المادية في السويد على التمتع بنعمة الاختلاط في مجتمع فلسطيني وهو ما حصل عليه بحماس في إسطنبول.
غسان أيضا فنان شاب ولد في مدينة أوروبية قرر رسم جدارية ضخمة مخترعا استعمالا جديدا أكثر دهشة للسيجارة وهو رسم جدارية كبيرة تتحدث عن حق العودة بتلك السجائر المشتعلة اللعوب.
ابتسام من اللاجئين الفلسطينيين في تركيا حضرت هي الأخرى مع طفليها لكي تتذكر فلسطين بعدما فقدت زوجها في الصراع السوري وهي أيضا بدوية فلسطينية بعينين حادتين تقول علنا بأن لها وطنا وتريده.
سمعت كاتبة دراما فلسطينية تقيم في الخارج تبدي استعدادها للإشراف على سلسلة مؤلفات لها علاقة بأدب الطفل الفلسطيني وشاهدت صبايا وشبابا بعمر الورد لا يعرفون عن فلسطين إلا اسمها لكنهم يتحدثون بلهجتها ويتمايلون على أنغامها ويتقافزون بحنان بين أروقة النشاطات التي تتحدث عن وطنهم السليب وعن العودة.
خبير وثائقيات خاطب الشعراء والكتاب والروائيين قائلا: اقطعوا ربع خطوة باتجاه الشعب وسيقطع ثلاثة أرباع الخطوة المتبقية.
مهندسون مبدعون وفنانون وعلماء شباب ولدوا في المنفى ويشكلون اليوم باسم الشتات الفلسطيني منجم الذهب الأصلي لكل من أراد أن يحفر في أعماق خطوات التحرير.. أصوات شابة تريد تأسيس «وكالة فلسطينية» تجمع شمل الشعب المشرد وتبدأ رحلة الضغط والتحرير بلغة بسيطة غير متكلفة خالية من الأجندات الشخصية والفصائلية.
ونشطاء خبراء في التواصل وينبذون الفصائلية وكسبوا في معركة «الشخصي» ويتطلعون للكسب في معركة الإنصاف والتغيير قبل التحرير.
وقود التحرير والانعتاق الحقيقي هم هؤلاء المجهولون الذين أسسوا ونجحوا في مجتمعات الآخرين وتمتعوا بحصانة العلم والثقافة وسلوك الطبقة الوسطى وتمكنوا من الإفلات من قبضة الانتظار الطويل على بوابات أجهزة المخابرات العربية.
قصص نجاح شخصية بالجملة تعيد إنتاج فكرتنا عن غرق الفلسطيني بالملذات والمنافع على حساب التحرير. جماهير متطلعة لمؤسسات تمثلها في الخارج وتجمع شتاتها بصورة تثبت مجددا بأن الشعب الفلسطيني حي ولا يموت أينما كان وأينما حل.
على حد علمي دفع مئات الفلسطينيين المقيمين في الشتات آلاف الدولارات للمشاركة في مؤتمر الشتات.
وعلى حد رصدي بحث المشاركون بالجملة عن أحرف الوطن الفلسطيني في كل التفاصيل من الأغنية للنشيد للعلم للقصيدة، وغابت رايات الفصائل في مشهد حيوي وأخاذ تحدى فيه الناس برد إسطنبول القارس لترديد أحرف كلماتهم.
بكل الأحوال لا أريد الخوض في الجانب السياسي من الجدل سواء ذلك الذي سبق المؤتمر أو لحق به خصوصا وأن المنظمين نجحوا في تجاوز الحالة الفصائلية ضمن الفعاليات والنشاطات.
وأرى أن فكرة تجميع شتات الخارج وتمكينهم من الاختلاط والاجتماع والتعار ف بحد ذاتها ساحرة وتعبر عن النجاح المركزي للمؤتمر بصرف النظر عن البيان الختامي والجوانب السياسية في الموضوع.
الفكرة مغرقة في النبل ولابد من تشجيعها ومن يريد أن يعمل حقا من أجل فلسطين بعد اليوم بين يدي الجميع طوفان بشري من الذهب الخالص النقي في مناجم الشتات حيث مجاميع شابة ومهنية ومثقفة وفهيمة ولم تلوثها الفصائلية ولا أوجاع الأنظمة العربية ولا تسعى للاستماع إلا لنغمات العودة والوطن الفلسطيني السليب. طبعا تستحق الجهة أو الجهات التي دعمت هذا التلاقي للشتات الفلسطيني الشكر والتقدير بصرف النظر عن هويتها.
وطبعا من حق الشتات أن يدخل وبقوة للمعادلة ويبادر لتأسيس هياكله ومؤسساته مادامت أوسلو وملحقاتها تستثنيه ولا أحد يخاطبه أو يتطلع له.
مختصر الكلام… الذكي فقط من ينظر اليوم لمنجم الشتات الفلسطيني.
نقلا عن القدس العربي