مصر والمفاهيم الكبرى

اثنين, 2014-12-22 20:46
عبير ياسين

أعاد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في كلمته على هامش افتتاح أعمال تطوير مطار الغردقة والميناء البحري يوم 17 ديسمبر الجاري الحديث عن مجموعة من المفاهيم التي تحدث عنها من قبل في تعريفات مختلفة عن المتعارف عليه، خاصة ما يتعلق بحرية الرأي دون حرية التعبير. كما قدم اقترابا آخر لمفهوم شديد الأهمية وهو مفهوم النظام، حيث اعتبر أن «النظام» كلمة لا وجود لها، وأن الدولة فقط هي المفهوم الممكن الحديث عنه. وبهذا، تبدو الصورة أكثر وضوحا في ما يخص التعامل مع المفاهيم الكبرى، من خلال إعادة التعريف أو إسقاط المفاهيم غير المرغوب فيها في قبور الذاكرة، على طريق رواية جورج أورويل «1984»، وهي الرواية التي دخلت على خط الأحداث، ولا يبدو أن لديها الرغبة لمغادرة المشهد في القريب.
يأتى خطاب الرئيس محملا بخطر كبير في ما يتعلق بتعامل النظام القائم مع الواقع والمستقبل وفكرة التغيير. حديث يستكمل ما كرره من معاني خاصة بغياب الديمقراطية، وتعظيم دور الحاكم، وكيفية التعامل مع ثورة يناير وعلاقتها بما حدث بعدها، خاصة بعد 30 يونيو. ويمكن القول إن الحديث عن إسقاط النظام من أهم ما قيل في ما يتعلق باستكمال تصور الرئيس عن الثورة والحكم في اللحظة والمستقبل. تساؤلات مهمة يطرحها، خاصة الاختلاف بين الدولة والنظام، وهل هو اختلاف طبيعي وصحي كما يفترض، أم انه شر يهدد كيان الدولة كما يفهم من حديثه. وهل يصح إلغاء الحديث عن النظام، وما الذي يفترض القيام به عندما يتكرر خطأ النظام معتمدا على أنه فوق المساءلة، لأن الانتقادات ضده سيتم التعامل معها على أنها تهديد للدولة؟ وهنا يكمن جزء أساسي من خطورة ما قيل.
يستهدف خطاب السيسي ـ كما يبدو ـ ثورة يناير وفكرة الثورة، عبر إلغاء المصطلح المستهدف وهو النظام، وربط أي تغيير بالدولة في مغالطة واضحة للفروق المميزة بين المصطلحات،. وبعد أن ربط في خطابات سابقة ثورة يناير ويونيو بثورة يوليو 1952، مؤكدا على خطاب الثورة الواحدة الممتدة، يعود ويؤكد أنه لا يوجد ما يسمى نظام، وهو ما يعني أنه لا توجد ثورة أو مطالب تغيير للنظام غير الموجود وفقا لرؤيته. ويبدو استهداف يناير واضحا من حديثه عن إلغاء المصطلح الذي طالبت بتغييره، وفي تأكيده على أن قدرة الشعب المصري وشجاعته ظهرت في تحرك الجماهير بدون خوف في 30 يونيو متغاضيا عن تحرك الجماهير في يناير 2011. 
وضع يعني أن 30 يونيو هي معيار عدم الخوف، وأن ما ارتبط بها من تغيير هو المطلوب والمقبول ونهاية المسار، لأنها جاءت لتصحيح خطأ المطالبة باسقاط نظام ما قبل 25 يناير، ولأن 30 يونيو وجدت لتغيير نظام وجد بسبب 25 يناير، التي طالبت بتغيير نظام مرتبط بشكل ما بثورة يوليو، المحصلة إن 30 يونيو صواب و25 يناير خطأ لابد من التأكد من عدم تكراره عبر نفي المصطلح والمرحلة من الذاكرة. والتأكد من أن 30 يونيو هي الحراك الشعبي الأخير الذي غير مسار التطور السلبي بعيدا عن ثورة يوليو 1952، التي يتم العمل على العودة إليها مع النسخة الأقرب ممثلة في حكم مبارك وبعض ما سبقه. ملامح تبدو قريبة من حديثه عن استمرار الدولة ومؤسساتها القوية وتولي كل رئيس جديد لتلك الدولة المستمرة على طريقة دولة عبد الناصر وإعلامه ورموزه مع بعض التحديثات التي تخدم الصورة.
وضع يعيد تعريف مطالب اسقاط نظام مبارك ويحولها إلى دعوات موجهه ضد الدولـــــة. وهو ما يعني أن التعامل مع مطالب تغييـــر النظام التي تطرح أو يمكن ان تطرح، ما هي إلا استهداف مباشر للدولة يهدد بقاءها ويصنـــــف المطالبين بها ضمـــــن الاعداء بوصفهم مصدر تهديد لوجود الدولة، في اتهام يتجاوز الحديث عن تهديد الاستقرار. 
يتماهى الشخص مع الدولة، ويصبح كرسي الحكم محصنا بضرورة تحصين الدولة، مستندا إلى ركيزتين أساسيتين: الأولى ان هناك حرب وجود على الإرهاب، والثانية انه لا يوجد مصطلح يسمى نظاما في مصر، عكس دول العالم، وان كلمة نظام في مصر تحل محلها الدولة من الآن وصاعدا على طريقة رواية «1984»، وهــــي تعيد كتابة الأخبار والوعود القديمة وفقا للواقع الجديد ليكون دائما أجمل، بما يخدم الحزب الحاكم في الرواية. يتحول الحاكم الى الدولة، والشعب إلى رعايا عليهم - كما كان عليهم دوما في خطاباته - شد الحزام والتقشف والانتظار وسط الفقر وتوابعه..
والغريب أنه في الوقت الذي تحدث فيه الرئيس عن استبعاد مفهوم النظام كان الواقع نفسه يشكك في وجوده، سواء بمعنى الترتيب والتنسيق أو بمعنى نظام الحكم والإدارة. ففي سلوك متكرر في الأحداث المشابهة كانت الرغبة في تضخيم صورة الزعيم أكثر حضورا من صورة النظام الذي يتم تهميشه. ففي الدول التي تعرف النظام وتعرف التنسيق بين أجهزة الدولة يفترض ان يعرف المسؤول أبجديات المشروع قبل أن يذهب لتدشين حجر الأساس أو افتتاحه، ولكن في حالة مصر علينا ان نتوقع من الرئيس أن يظهر بصورة المفاوض في ما يتعلق بالسعر والمدة، بما يعنى نظريا أنه لا يعرفها من قبل، ولكنه على الرغم من هذا هو قادر على إعادة تخطيط المدة والتكلفة في لحظة وكأنه أكثر معرفة من المتخصصين. تلك الرسائل التي تقدم عادة وسط ضحكات وربما تصفيق الحضور تحمل تهافتها الذاتي لأنها تظهر «النظام» بوصفه جزرا منعزلة، والرئيس بوصفه شخصا غريبا لا يعرف المعلومات الرئيسية عن المشروع، قبل التوجه للمشاركة في افتتاحه أو تدشين البدء فيه. وإن أضفنا حديثه عن رفضه المشاركة في افتتاح أو إرساء مشروع ما دون التحقق من توفر معداته والبدء فيه، وتناقضه مع عدم معرفته بالمدة والتكلفة، فإما اننا أمام مشهد معلب لإيصال رسائل السيطرة والزعامة للمواطن، وإما اننا أمام مشهد عبثي يمكن ان تفاوض فيه على العلن حول ثوابت كتلك لتحقيق مكاسب شخصية، بدون أن تدرك الرسائل السلبية التي تحملها عن التخطيط والإدارة وكفاءة من يضع التصورات الأولى، التي يبدأ المشروع على أساسها وأسباب اختيار المدة والتكلفة المحددة وعوامل التراجع عنها وعلاقتها بالجودة. 
رسائل لا تهم الرئيس ومن حوله على ما يبدو، في سعيهم إلى تثبيت صورة الزعيم على حساب مكانة غيره من المسؤولين والخبراء والمؤسسات التي يؤكد على أهميتها.. مكسب لحظي وخسارة حقيقية ممتدة.
قد يتشابه الواقع في بعض تعقيداته مع جورج أوريل 1984، ولكن المهم أن مقارنته الأساسية ترتبط بلحظة الحلم ولحظة التغيير المتصورة في يناير 2011، التي تبدو الان بعيدة عن الواقع وعن النظام الحاكم الذي يحاول تثبيت الوجود بإعادة تعريف المفاهيم وإلغاء البعض الآخر وإلقاء كل ما لا يرغب فيه إلى مقابر الذاكرة، وأبراز ما يشاء في عناوين الأخبار المتكررة. يحقق الحديث عن إلغاء مصطلح النظام وتعظيم مصطلح الدولة العديد من المكاسب المباشرة للنظام الحاكم، كما كان الوضع بطرحه للتعريفات المستحدثة للمفاهيم الكبرى المتعلقة بالحقوق والحريات، لأن الخطر الذي يهدد الدولة خطر وجودي يقوم على الحشد الجماهيري واستخدام كل الوسائل الممكنة وتبريرها بما فيها القمع. كما أن الحديث عن دولة المؤسسات التي تعمل بدون تغيير يتسق مع حديثه عن المشاريع الممتدة والمحاسبة الغائبة، ما دامت المشاريع توضع على مدار عمر الرئاسة والحكومة مرتبطة بعمر النظام نفسه ووجود رموزه في الحكم، ربما لتدشين ضرورة استمرارها لاستكمال تلك المشاريع. أما الديمقراطية فهي متحققة في تلك الرؤية التي تؤمن بتغيير أو إبقاء الحاكم عبر الصناديق التي تعرف المواطن عند الادلاء بصوته الذي يمكن ان يعتبره النظام تفويضا في بعض الأحيان.. كل هذا ولكن مصر، كما يقول الرئيس، لا ترجع إلى الوراء، ربما لأنها لا ترجع إلى حقبة معينة في الخلف بقدر ما تجمع الكثير من سلبيات ما مر عليها من قبل في تشكيلة واحدة لا تشبه الحلم ولا يمكن التحقق من المستقبل الذي ستقودنا إليه ان استطاعت ان تستمر في المسير بكل تلك الاثقال والأمراض والتشوهات.