يعيش العالم عصر «الحيرة» و«الاستغرابـ« و«الضياع الفكري» و«العقائدي». هذه حقيقة يؤكدها المفكرون والكتاب الذين لا يصدقون ما يرون أو يسمعون من أخبار وتطورات لم يتوقعوا حدوثها. الكثيرون من الأمريكيين لا يصدقون أن بلدهم يحكمه دونالد ترامب وهم الذين كانوا يتوقعون أن تقود أمريكا العالم إلى مستقبل آمن وعلاقات دولية هادئة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. بينما يمثل الرئيس الحالي عكس ذلك. الأوروبيون لم يتوقعوا أن تتجه قارتهم نحو التطرف اليميني وهم الذين طالما اعتقدوا أن المشروع الديمقراطي كفيل بترجيح العقل والحكمة وأن الطبيعة الإنسانية الوسطية والمعتدلة كفيلة بحماية المواطنين من التطرف، وأن اليمين المتطرف لا مكان له في الحياة العامة، بل سيظل محصورا بأطراف الحياة السياسية. ورواد الوحدة الأوروبية لا يصدقون أن اتحادهم سيبدأ في التصدع وأن إحدى دوله الكبرى ستقرر الخروج منه. فبعد سقوط الاتحاد السوفياتي واستقلال العديد من دوله السابقة أضيف أعضاء جدد للاتحاد الأوروبي حتى بلغ الضعف.
دول العالم التي انتمت إلى ما كان يسمى «عصبة الأمم» ثم «الأمم المتحدة» بعد الحرب العالمية الأولى، لم يكونوا يتوقعون أن تتحول المنظومة إلى إطار فضفاض بلا صلاحية أو قرار ملزم، وأن هذه العصبة ستصبح ألعوبة بيدي الدول ذات الوفرة المالية القادرة على الابتزاز وشراء المواقف وفرض السياسات. أما الحركات التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية لمناهضة الحرب والتصدي للعدوان بتشكيل رأي عام عالمي ضد الصراعات المسلحة لمنع تكرر مآسي الحربين الكونيتين، فهي الأخرى لم تتوقع أن الحرب ستكون الخيار الأول لدى الدول ذات القدرات العسكرية العالية، أو أن الموازنات العسكرية للدول ستتضاعف ولن تتعرض للتقليص كما يحدث للقطاعات الأخرى.
أما المسلمون فهم كذلك مصابون بالحيرة والذهول لما آلت إليه أمورهم، سواء على صعيد وحدة أمتهم وتأخر شعوبهم أم على سمعة دينهم بين الأمم والشعوب الأخرى. لم يصدق رواد «الصحوة الإسلامية» الذين قادوا العمل الإسلامي قبل نصف قرن، أن كوادرهم ستتحول في غضون بضع سنوات إلى دعاة للفرقة ورواد للتمايز وفق خطوط الانتماء الديني والمذهبي. أما من حمل شعار «الإسلام هو الحل» فلم يكن يتوقع أن تأتي اللحظة التي يكون هذا الشعار فيها مرفوضا جملة وتفصيلا وسببا للسخرة والازدراء وأن يضطر حملته لإعادة صياغة خطابهم بعيدا عن فحواه. أما رواد مشروع الإسلام السياسي فما أكثرهم إحباطا وهم يعيشون إما خلف القضبان ويتعرضون للتعذيب والتشنيع والازدراء، أو يضطرون لمسايرة غيرهم وإخفاء هويتهم والإصرار على أنهم لا يسعون لإقامة الحكم الإسلامي. هؤلاء الدعاة الذين طالما تحركوا وفق الضوابط الشرعية وتعاملوا مع العامة بالعقل والمنطق والعلم والنصيحة والإرشاد انطلاقا من الشعور بالحب والحرص على الخير، لم يتوقعوا أن تخطف دعوتهم ويطرح شعار «الدولة الإسلامية» لضربهم ومحاصرتهم وتغييب وهج دعوتهم. رواد المشروع الإسلامي وطلائع صحوته ما كانوا يرغبون أن تتحول بلدانهم إلى ساحات احتراب وعنف أعمى لا يبقى ولا يذر، وإلى دواليب موت لا تميز بين المذنب والبريء ولا يرعى للشيخ حرمة ولا للطفل أو المرأة حقا في الحياة. لم يتوقع هؤلاء أن دعوتهم التي انطلقت بهدف إقامة الحرية والعدل سوف تتحول إلى مشاريع عبثية تسلب البشر حق الحياة وتستبدل ذلك الحق بموت محتوم بأبشع الوسائل. أما الفلسطينيون فلم يتوقعوا أن يخذلهم الاقربون، أو يتم التطبيع مع العدو، أو أن يتحالف الأشقاء مع المحتلين، ويعتبروا الاحتراب الداخلي بين مكونات الامة أهم من التصدي للاحتلال.
في عصر اللامعقول نعيش، وفي أجوائه تتشكل ثقافة الجيل الحالي الذي يولد في القارات الخمس. وما يقال عن الوعي والتطور الإنساني في مجالات الوعي والثقافة والانفتاح والتحمل ومد الجسور مع الآخر وتحول العالم إلى قرية صغيرة في زمن التواصل الاجتماعي غير المحدود، لا يبدو له مجال واسع على أرض الواقع. وقوى الخير التي تختزن الكثير من النزعات الفطرية كالحب والإخاء والتضامن والتكافل، تجد نفسها ضحية للقوى المضادة لكل ذلك. فبينما تخرج تظاهرات هنا وهناك للترحيب باللاجئين الفارين من لهب الحروب وضراوة الجوع يتم تسخير كل وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، تحت غطاء الفرص المتكافئة للجميع، لبث مشاهد التمترس وراء الخصوصيات الثقافية والدينية للتصدي لظاهرة اللجوء وحرمان اللاجئين من حقهم الطبيعي الذي كفلته التشريعات الدولية ونص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وعندما خرج شباب الأمة قبل ستة أعوام في ثوراتهم من أجل التغيير، لم يتوقعوا أن يدير الغربيون ظهورهم، وبدلا من دعم التحول الديمقراطي، يدعمون الأنظمة القائمة ويمدونها بالخبرات الأمنية والسياسية لقمع تلك الثورات. لم يكن متوقعا أن يعود الوضع أسوأ مما كان عليه قبل تلك الثورات التي قدمت الشعوب خلالها تضحيات كبرى من أرواح شبابها. فهذا رئيس مصر السابق، حسني مبارك، يبرأ من التهم التي وجهت إليه بإصدار الأوامر بإطلاق النارعلى المتظاهرين، بينما يستمر سجن الرئيس المنتخب. لم يكن متوقعا أن تعود الدولة العميقة كما كانت عليه قبل الثورات في كل من تونس ومصر. وفيما تستمر السياسات الغربية للحفاظ على الوضع الراهن في العالمين العربي والإسلامي، بدون تطوير أو تغيير، تسير عجلة الحياة كأن شيئا لم يكن.
برغم الواقع اللامعقول فان ظواهر الموت والقتل الجماعي والإقصاء غير كافية لتلغيم أجواء التعايش بين البشر على تعدد ألوانهم ولغاتهم وأديانهم، فالدراسات والاستطلاعات حول الإسلام وانتشاره وتأثيره على التوازن العالمي تتواصل. تقول دراسة أصدرها الاسبوع الماضي مركز «بيو PEW» الامريكي إن الإسلام يتجاوز انتشاره معدل تزايد سكان العالم، وإن المسلمين سوف يزيد عددهم كثيرا خلال نصف القرن المقبل. وسيكون الإسلام الدين الأوسع انتشارا في العالم بحلول العام 2070. هذا المركز الأمريكي قام بتحليل التحولات الديمغرافية للعديد من أديان العالم الكبرى واستنتج أن عدد سكان الأرض الذين يصفون أنفسهم «مسلمين» سيزداد بنسبة 73 في المئة ما بين 2010 و2050 مقارنة بالمسيحيين الذين سيزداد عددهم 35 في المئة في الفترة نفسها. بينما سيزداد سكان العالم بحلول العام 2050 بنسبة 37 في المئة. وبينما كان هناك في العام 2010 حوالي 1.6 مليار مسلم و2.17 مليار مسيحي، سيبلغ عدد المسلمين في 2050 حوالي 2.76 مليار مسلم وعدد المسيحيين 2.92 مليار. ماذا يعني ذلك؟ الارقام تفيد البعض ولا تنفع الكثيرين. فانتشار الدين وكذلك الأفكار التقدمية الأخرى ليس بقرار أحد، بل بالمنطق الذي تحمله تلك الأفكار وأساليب الداعين لها. وليس غريبا أن يكون انتشار الإسلام هو الأوسع، فلديه القابلية للانتشار والاستحواذ على القلوب. ولكن ما يغيب عن الأذهان أن غياب قيم الإسلام عن الحياة والممارسة يحصر الممارسة الدينية ضمن نطاق العبادات الشخصية فحسب، الامر الذي لا ينجم عنه طرح آخر للسلوك الإنساني خارج نطاقه الضيق. ولقد دأب الإنسان، بوحي من طبيعته البشرية، على استقطاب الآخرين إلى جانبه: إن كان دولة أم حزبا أو مجموعة أو مسجدا أو غير ذلك. وثمة إيمان بأن الإسلام دين قادر على استقطاب الآخرين لأنه مؤسس على الفطرة والمنطق والدليل، وأن من يبحث عن الحقيقة يجدها في الإسلام. وغالبية معتنقيه الجدد وجدوا طريقهم إليه بالبحث والاقتناع، وليس بسبب الإكراه أو الاضطرار. والنظرة للدين تتفاوت بين الأشخاص، فمن يبحث فيه عن طريق للتحرر والانعتاق من القيود يجد ذلك واضحا في القرآن وأحاديث الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام. ومن يبحث عن العبادة والتصوف والعرفان يجد ضالته فيه، ومن ينطلق ساعيا لإقامة كيان سياسي بايديولوجية دينية فما أكثر الآيات والأحاديث التي تحثه على ذلك. أيا كان الأمر فالانتماء لهذا الدين يوفر لمعتنقيه ما يبحثون عنه، وغيبياته ستظل معينا للباحثين عن القوة الإلهية القادرة على هزيمة الشيطان في النفس، والقادرة على توفير الشعور بالقوة والهوية. كما أن اطروحاته الاجتماعية توفر لتابعيه وسائل للتواصل مع الآخرين من ذوي الأجناس والقوميات الأخرى، لأنه دين الترابط والأخوة. هذه قضايا بديهية، ولكن ستظل التساؤلات قائمة حول مدى فاعلية الدين في تقوية موقف أتباعه خصوصا حين يواجهون ما لا يتوقعون، كما هو الحال عليه في الحقبة الحالية من الحياة البشرية.
من هنا فربط أي دين أو ايديولوجية أو مذهب سياسي أو روحي بالأرقام لا يخدم قضيته. فما هو مطلوب أن يشعر الاتباع بالانتماء الحقيقي الذي يوفر لديهم قناعات منطقية وروحية، تبعدهم عن حالة الشك والقنوط حين تضيق الحياة أمامهم وتشتد وطأة وقائعها على نفوسهم. ليس المهم أن تتراكم الأرقام حول عدد الاتباع ومدى الانتشار الجغرافي، وما إذا كان من يمسك بزمام السلطة ومقاليد الحكم منتميا أم غير منتم. الأمر الجوهري أن تنعكس قيم الدين وأخلاقه ومبادئه على سياسات «أولي الأمر» فلا يظلمون ولا يفسدون ولا يسفكون الدماء ولا يصادرون حريات البشر ولا يمنعون الحق في التفكير. هذه هي قيم الدين، المنسجمة مع الفطرة والقيم الإنسانية. ولا شك أن المسلم يشعر بالارتياح حين يعرف أن دينه يتوسع، ولكن الأهم من ذلك أن يكون ذلك مصدرا لسعادة البشر، على اختلاف انتماءاتهم، ولا ينحصر ضمن الأطر الغيبية والتعبدية. في عالم يعاني من الحيرة والخشية من المستقبل وغياب الأمن وتصاعد القيم الجاهلية كالعصبية وشيطنة الآخر والتخلي عن المسؤوليات الإنسانية والاخلاقية، فإن الساسة الغربيين والشرقيين على حد سواء بشخوصهم الحالية يتحولون إلى مصدر اضطراب سياسي وأمني وقد يدفعون العالم نحو الحرب والدمار، كما حدث مرارا في التاريخ الماضي والمعاصر.
نقلا عن القدس العربي