تجري يوم الأحد القادم الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، يتواجه فيها كما هو معلوم كلّ من المرشّح «الوسطي اليساري» إيمانويل ماكرون ومرشّحة اليمين الأقصى مارين لوبان. وقد أتت نتيجة الدورة الأولى التي تمّت في 23 نيسان/ أبريل كما تكهّنت وكالات استطلاع الرأي في الأيام التي سبقت ذلك التاريخ. بيد أن النتيجة هذه، إذا كانت بالتالي غير مفاجِئة، فهي تختلف جداً عمّا كان متوقَّعاً قبل خمسة أشهر عندما فاز فرانسوا فيون فوزاً ساحقاً في الانتخابات التمهيدية لحزب الجمهوريين، حزب اليمين الفرنسي التقليدي، وتوقّع الجميع وصوله إلى الدورة الرئاسية الثانية وفوزه بسهولة على لوبان التي كان مسلّماً بوصولها هي أيضاً إلى الدورة الثانية بسبب اضمحلال نفوذ الحزب الاشتراكي. أما بعد إعلان نتائج الدورة الأولى فقد كثرت التعليقات على مغزى خروج الحزبين الرئيسيين التقليديين من السباق الرئاسي. بيد أنه إذا صحّ أن الناخبين الفرنسيين قد أخرجوهما من الحلبة، يبقى أن إيمانويل ماكرون هو في الحقيقة الابن السياسي غير الشرعي للرئيس الاشتراكي الحالي فرانسوا هولاند. ومن المعروف أن ماكرون كان قد انتسب إلى الحزب الاشتراكي الفرنسي في عام 2006 واستقال منه بعد ثلاث سنوات في عام 2009. ومع ذلك فقد منحه هولاند مناصب حكومية ما أن تولّى الرئاسة سنة 2012، توجّها بتعيينه وزيراً للاقتصاد في عام 2014. وقد استقال ماكرون من هذا المنصب الوزاري الرفيع بعد سنتين معلناً تأسيسه لحركة سياسية جديدة ومُبدٍ طموحه الوصول إلى سدّة الرئاسة. وبعد فشل ابن هولاند الشرعي ورئيس وزرائه السابق مانويل فالس في الانتخابات التمهيدية للحزب الاشتراكي، إذ تغلّب عليه مرشّح ينتمي إلى يسار الحزب هو بنوا هامون، لم يكن سرّاً على أحد أن هولاند بات يدعم ماكرون في الدورة الأولى وإن لم يستطع الجهر بالأمر، والحال أن فالس قد أيّد ماكرون علانية مفضّلاً إياه على مرشّح حزبه.
أما النتيجة التي تُشكّل حدثاً أهمّ في الحياة السياسية الفرنسية، وإن لم تكن غير مسبوقة بل تحصل للمرة الثانية، فهي وصول لوبان البنت إلى الدورة الثانية بعد لوبان الأب في عام 2002. وإذا كان متوقعاً أن تحصل البنت هذه المرة على عدد من الأصوات يفوق بشكل هام ما حصل عليه والدها في الدورة الثانية لعام 2002 (في وجه جاك شيراك) إلّا أن حظّها بالفوز يبقى محدوداً للغاية في وجه الدعم الذي حصل عليه ماكرون من قبل اليمين التقليدي الذي دعا أبرز أقطابه للتصويت له في دورة الأحد المقبل، إضافةً إلى أقطاب الحزب الاشتراكي بمن فيهم مرشّح الحزب الرسمي، ناهيكم بأهل الوسط.
وبالرغم من أن ماكرون لا يحوز على تنظيم سياسي قوي يستند إليه في حملته، ولا على قاعدة انتخابية ثابتة إذ أن صعوده السياسي كان بالغ السرعة وهو بالتالي هشٌّ، يبقى أن منافِسته تقود حزباً تنبذه بشدّة غالبية واسعة من الشعب الفرنسي. وإذا كانت قد أعلنت استقالتها من رئاسة حزبها بعد الدورة الأولى بغية خوض معركة الدورة الثانية وأعلنت أن رئيس وزرائها سوف يكون أحد المرشّحين الهامشيين يدّعي الوفاء لتراث شارل ديغول، فهذه الأمور لم تنطل على أحد. كما لا ينطلي على أحد ادّعاء لوبان تبنّيها طموحات اليسار الراديكالي الذي مثّله في الدورة الأولى جان لوك ميلانشون.
وأملها الحقيقي الوحيد هو أن يمتنع عن التصويت القسم الأكبر من الذين لم يصوّتوا لها ولا لماكرون في الدورة الأولى بحيث تفوز بالانتخابات على خلفية امتناع قياسي، وهذا احتمال ضئيل من شأنه لو تحقّق أن يؤدي إلى حال من الفوضى قد تضع فرنسا على درب حرب أهلية. وإن بات صعباً استبعاد أية مفاجأة سيئة في عالمنا الراهن بعد فوز دونالد ترامب بالرئاسة الأمريكية، فإن حظوظ هذا الأخير كانت أعظم بكثير بوصفه المرشّح الرسمي للحزب الجمهوري، أقوى حزبي السلطة في الولايات المتحدة، ولكون الانتخابات الرئاسية الأمريكية انتخابات غير مباشرة بحيث يستطيع المرء الفوز بها حتى ولو حصل على عدد من الأصوات أقل مما حصل عليه منافسه. وقد حازت هيلاري كلينتون بالفعل على عدد من الأصوات يفوق ما حصل عليه ترامب بثلاثة ملايين.
والحقيقة أن المغزى الأكثر مفاجأةً في الدورة الرئاسية الفرنسية الأولى يشبه المغزى الأكثر مفاجأةً في الانتخابات التمهيدية الأمريكية. فمثلما لم يكن بوسع أحد أن يتوقّع قبل عام 2016 أن يحصل على ثلاثة عشر مليوناً من الأصوات، غالبيتها من الشباب، مرشّحٌ كبيرني ساندرز يعلن عن نفسه اشتراكياً، وهي تسمية تشير في الولايات المتحدة إلى موقف أكثر راديكالية بكثير مما تشير إليه في فرنسا، فإن أحداً لم يتوقّع قبل خمسة أشهر أن يحصل ميلانشون، مرشّح اليسار الراديكالي الفرنسي، على سبعة ملايين من الأصوات ويتفوّق على منافسه الاشتراكي هامون بفرق كاسح. أما العبرة من هاتين النتيجتين فهي أن أزمة الرأسمالية العالمية في طورها الراهن إنما تُنتج تجذّراً في اتجاهين متضادين بين قطبي اليمين الأقصى واليسار الراديكالي مثلما حصل خلال أزمة ما بين الحربين العالميتين. وإن كان اليمين الأقصى يحتلّ الآن مركز الصدارة بعد تسارع صعوده في العقدين الأخيرين، فإن عودة القطب اليساري الراديكالي إلى البروز بحلّة جديدة بعد أن كان موته قد أُعلن قبل ربع قرن إثر سقوط الاتحاد السوفياتي قد يكون هو الحدث الأكثر جدّة بالمنظور التاريخي.
نقلا عن القدس العربي