يروى في صالونات السياسة بالجزائر أن مدير فندق راق متاخم لمبنى البرلمان بقلب العاصمة سئل مرة عن نوعية زبائنه، فقال ساخراً: فئتان.. واحدة ترفع أيديها وأخرى ترفع أرجلها.
اشتهر ذلك الفندق بأنه مخصص للنواب. واشتهر كذلك بحياة موازية سرّية، ما أن يلف الظلام المدينة، بطلاتها بنات الليل الراقيات».
كان الرجل يعبّر عن انطباع شارع جزائري لا يحفظ عن البرلمانيين سوى صورة الأيادي المرفوعة، تعبيرا عن الموافقة.
هذا الانطباع هو ما يجعل النقاش حول نتائج الانتخابات البرلمانية التي جرت الخميس الماضي، بلا جدوى.
المهم، والخطير أيضا، أنها كرّست ليلا من الرداءة والاضمحلال والخيبة.
مثيرة للشفقة النقاشات التي أعقبت إعلان النتائج ودارت حول حال البرلمان المقبل، ومن سيكون رئيسه وكيف ستتوزع المهام فيه وغير ذلك.
هذا البرلمان، مثل سابقيه منذ 1997، لن يكون له دور، بل لن يستطيع حتى اختيار رئيسه إلا بأوامر تأتي من الرئاسة فيرفع الوافدون الجدد أيديهم بالموافقة. ولن يفيد أحداً من الجزائريين غير الذين حالفهم الحظ في الانتساب إليه، ستهل عليهم الامتيازات المادية ـ التي هي في الحقيقة فتات قياسا بعملية السطو الكبرى التي يتعرض لها الاقتصاد الجزائري وخزينة الدولة.
لا جدوى من شكاوى الخاسرين وتذرعهم بحدوث تزوير. فعدم التزوير كان سيعطي بعضهم حفنة من المقاعد الإضافية تدر مزيداً من الريع والامتيازات على حفنة من الأفراد والعائلات، وانتهى الأمر.
ليس مُهمًّا لأن السلطة في الجزائر، منذ عقدين، وربما أكثر، بلغت مستوى سياسيا فريدا يغنيها عن أي تزوير بالطريقة والمعنى المتعارف عليهما. هذا المستوى قضى على الاختلاف بوجهيه، الجميل والقبيح، فساوى بين الأشياء وجعل تزوير الانتخابات من عدمه سيّان: إجراء اقتراع نزيه وشفاف لن يثمر البرلمان الأسترالي أو الفرنسي، وتزوير الاقتراع لن يمنح الجزائر برلمانا مثل البرلمان البريطاني.
ذلك أن التزوير أخذ شكلا جديدا مختلفا، ويُلعب في ملعب آخر لا صلة له بالصندوق وورقة التصويت، وفي زمن يسبق بكثير يوم الاقتراع.
لماذا تزوّر السلطة الاقتراع وبين المرشحين سيدة أُلقي عليها القبض في بيت دعارة بغرب البلاد تدير شبكة زنى، وفق تقارير صحافية محلية؟
لماذا تزوّر الاقتراع وبين الطامحين للفوز رجل شعاره «المرشح الذي لا يطفئ هاتفه الجوال؟».
ولماذا تزوّر الانتخابات والوزراء وبعض القادة في الدولة تحوّلوا إلى مهرّجين لمناسبة الحملة الانتخابية؟
رئيس الوزراء، عبد المالك سلال، وهو يقود الحملة الانتخابية، كان يخاطب الناس بلغة الاصطبلات (أضربوهم، كركروهم، اطردوهم، اسحبوهم.. إلخ).
والأمين العام للحزب الذي فاز بالأغلبية، جمال ولد عباس، يقول بالفم الملآن وبلا أدنى حياء «سنحكمكم للمئة سنة المقبلة». وبدلا من أن يرد على الاتهامات السياسية (يمكن أن تتحول إلى جنائية) التي تلاحقه وتلاحق أولاده، يصرخ بأن فاتح شمال إفريقيا، عقبة بن نافع، كان منتسبا لجبهة التحرير.
ولماذا تزوير الانتخابات والجزائريون يكتشفون أن الرجلـَين المذكورَين آنفا (وغيرهما) عاجزَين عن سرد فكرة واحدة واضحة ومتناسقة خلال دقيقتين؟
طيلة الحملة الانتخابية لم يسمع الجزائريون كلاما جديرا بالاحترام من هؤلاء الناس. كل ما كان مزايدات في الولاء لرئيس مُقعد حالته تثير الشفقة، وثرثرة تنزل إلى درجة السخرية.
تزامنت الانتخابات الجزائرية مع الاقتراع الرئاسي في فرنسا، فصُدم الجزائريون بذلك الفرق الفادح بين خطاب سياسي ضحل هنا وآخر مبهر هناك.
لا يجب البكاء على تزوير انتخابات بلا قيمة. الأخطر من التزوير إصابة البلد بهذا الفراغ القاتل، وبتخدير يمنعها من الاستجابة للألم، فكان من نتائجه المُرّة أن النساء يزغردن على اعتذار سلال لأنه لا يستطيع الرقص معهن «بسبب ضيق الوقت»، ويهللن لنصيحته لهن بـ»كركرة» أزواجهن إلى صناديق الاقتراع إذا تأخروا عن التصويت، والرجال يضربون الدفوف وينفخون المزامير على وعود ولد عباس لهم بأنه سيحكهم مئة سنة أخرى وبأن عقبة بن نافع (لفظه بونافع) كان من جبهة التحرير.
لم تكن السلطة السياسية، ومن ورائها الإدارية المشرفة على الانتخابات بحاجة إلى تزوير لأن البديل غير مقنع وغير مخيف لها، وليس أفضل مما لديها.
في كل اقتراع الخميس شيء واحد كان يهمُّ السلطة، هو نسبة المشاركة.
وهذا الاهتمام لم يكن من داعي الحرص على شرعية البرلمان أو دفع الناس إلى اختيار ممثليهم ومن وراء ذلك إشراكهم في الشأن العام.
كان الهمُّ الأول، ولا يزال، الحكومات الغربية. نسبة تصويت عالية ستعزز ثقة السلطة الجزائرية أمام الأجانب، وتضيف لرصيدها نقطة أخرى باعتبارها عرفت كيف تحافظ على الاستقرار وتحمي البلد.
ومن شأن هذه الثقة، عندما تتوفر والنقطة الأخرى عندما تُضاف للرصيد، تعزيز إيمان الفريق الحاكم بأحقيته في ولاية رئاسية أخرى، إن للرئيس بوتفليقة أو وريثه الذي سيتم التوافق عليه قبل عرض اسمه على الشعب ليزكيه.
ورغم ذلك، لم تزد نسبة التصويت، التي أقرّت بها السلطة ذاتها، عن 38 في المئة (حوالي 8 ملايين ناخب)، تفيد بعض الأرقام أن أوراق مليونين منهم لاغية، أي أكثر من عدد الذين صوّتوا للحزب الذي فاز بالأغلبية.
نقلا عن القدس العربي