الانتخابات الرئاسية الفرنسية والجوقة العالمية العجيبة

أربعاء, 2017-05-10 09:04
جلبير الأشقر

أيا كان الرأي في الرئيس الفرنسي المنتخَب إيمانويل ماكرون وفي برنامجه النيوليبرالي، فإن جانباً هاماً من الانتخابات الفرنسية الأخيرة كان موقف المرشّحيْن اللذين تواجها في الدورة الثانية من المهاجرين وأولاد المهاجرين من أصول عربية ومسلمة. وقد كان التمايز على أشدّه في هذا المجال بين «الوسطي» ماكرون ومنافسته مارين لوبان، زعيمة أقصى اليمين.
فقد خاضت هذه الأخيرة حملتها الانتخابية باستغلال كثيف لرهاب الإسلام (الإسلاموفوبيا) بما يضاهي حملة دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية خلال العام الماضي. فأعلنت أنها تنوي إغلاق الحدود الفرنسية أمام المهاجرين، بما في ذلك إنهاء الهجرة بهدف لمّ الشمل العائلي، وطرد جميع الذين يشتبه جهاز أمن الدولة في «تطرّفهم» الإسلامي (حتى ولو لم يقترفوا أي جرم) وعددهم بضعة آلاف، مع نزع الجنسية الفرنسية عن كل من حاز على جنسية أخرى من بينهم، كما تنوي حلّ «اتحاد المنظّمات الإسلامية في فرنسا» (UOIF) الذي غيّر اسمه قبل ثلاثة أشهر إلى «مسلمي فرنسا» والمعروف بدور جماعة الإخوان المسلمين في إدارته.
أما الرئيس الفرنسي المنتخَب فقد رفض كل هذه المواقف وأدانها، بل رفض أن ينبذ دعوة «اتحاد المنظّمات الإسلامية في فرنسا» للتصويت له التي حاولت لوبان إحراجه بها، قائلاً إنه لا يدين سوى من يُثبَت أنهم خرقوا القوانين الفرنسية. وأعلن ضرورة المصالحة بين الفرنسيين من شتى الأصول بتخطّي الإرث الاستعماري، وقد أثار سخط اليمين الفرنسي عندما وصف ما ارتكبته فرنسا في الجزائر أثناء زيارته لهذا البلد بأنه «جريمة ضد الإنسانية»، ولو اعتذر لاحقاً من الفرنسيين الذين جرح مشاعرهم بتصريحه. 
وكانت النتيجة المنطقية أن أكثر المهتمين بفوز ماكرون كانوا الفرنسيين والمهاجرين من أصول مغاربية ومسلمة، وقد تنفسّوا الصعداء في ليلة الأحد الماضي عندما أعلن فوز مرشّحهم. وقد انضمّ عدد بارز منهم إلى الجمهور الذي احتشد للاحتفال بفوز ماكرون، كما شارك في الاحتفال عدد من الفنّانين ينتمون إلى الأصول ذاتها وكان الراي بين الأنواع الموسيقية التي عُزفت في تلك المناسبة كما ولو كان الأمر نكاية باليمين العنصري.
كما ظهرت بين المحتفلين أعلام للثورة السورية وهي تشير إلى فرق جليّ آخر بين ماكرون ولوبان هو موقف كل منهما إزاء المأساة السورية. فبينما تؤيد لوبان نظام آل الأسد بحجة محاربة «التطرّف» الإسلامي، مثلما تكنّ مشاعر التأييد والإعجاب لحامي هذا النظام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يمثّل ماكرون استمراراً في الموقف الفرنسي كما تَحدّد خلال رئاسة فرانسوا أولاند، وهو مبني على تأييد المعارضة السورية الرسمية والالتزام بالموقف الأوروبي في التصدّي لبوتين. والحال أن ميشال عون، صديق نظام الأسد وحليف «حزب الله» سنده اللبناني، وفلاديمير بوتين هما رئيسا الدولة الوحيدان اللذان استقبلا زعيمة أقصى اليمين الفرنسي (بادر عون بحيث خفّف الأمر على بوتين) قبل الانتخابات بما رأى فيه الجميع تأييداً مكشوفاً لها.
ونأتي هنا لدلالة كل ذلك في مجال السياسة العالمية. فمثلما سبق وذكرنا في هذه الصفحات قبل بضعة أشهر، باتت روسيا بوتين في عالمنا المعاصر أحد أقطاب الرجعية العالمية. ويلتفّ حولها أقصى اليمين الغربي في انقلاب مذهل للأوضاع إذ أن أقصى اليسار الغربي كان قد التفّ حول روسيا السوفياتية طيلة عقود عديدة (ولا يزال بعض أدعياء اليسار الحاليين يتحمّسون لروسيا بوتين وكأنهم لم ينتبهوا لردّتها إلى القيصرية بحلّة معاصرة). ويشترك المحور اليميني المتشدّد في استغلال رهاب الإسلام من منطلق شبيه بنظرية «صدام الحضارات» الرجعية. والطريف في الأمر أن «الجمهورية الإسلامية» الإيرانية تلتقي مع هذا المحور في دعم نظام آل الأسد بالرغم من أن معظم أعضاء المحور يكرهونها ويكرهون أتباعها الإقليميين، ولا سيما «حزب الله» اللبناني. والأعجب أن رجب طيّب أردوغان، راعي الإخوان المسلمين، انضم بدوره إلى دائرة أصدقاء بوتين وقد بدأت المعارضة السورية تدفع ثمن ذلك الارتداد.
هذا ومن المعلوم أن أعضاء أقصى اليمين الأمريكي الذين انضمّوا إلى حملة دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية وانضمّ بعضهم من ثمّ إلى إدارته في واشنطن ينتمون إلى المحور الرجعي الذي تمّ وصفه، يشاركونه رهاب الإسلام والإعجاب ببوتين. ترامب نفسه كان متأثراً بهذا التوجّه، وقد تراجع عنه بعض الشيء تحت ضغط المصالح الأمريكية التي لا بدّ لأي رئيس أمريكي من صلب النظام الرأسمالي أن يلتزم بها. فقد دفعته تلك المصالح إلى التعويل على المملكة السعودية، حليف الولايات المتحدة الأقدم والأهم في الشرق الأوسط (أقدم وأهم من دولة إسرائيل بعينها التي لا تعدو وظيفتها الدفاع عن المصالح الأمريكية التي تمثلّها المملكة بامتياز). ويسعى ترامب اليوم وراء تشكيل جبهة شرق أوسطية تحت زعامته تسكت عن عداء أقصى اليمين الغربي للإسلام. وقد بيّن حكّام المملكة والإمارات العربية المتحدة ومصر أنهم على أتمّ الاستعداد للسكوت عن ذلك العداء لقاء تحالفهم مع واشنطن.
يا لها من جوقة عجيبة ومليئة بالتناقضات في وضع عالمي لا يني يفاجئنا!

نقلا عن القدس العربي