إن الانتفاضة التي عمّت الجنوب التونسي منذ شهر نيسان/أبريل الماضي والتي لا تزال ملتهبة هي دليلٌ جديد، وقد يكون أقوى الأدلّة حتى الآن، على أن الانتفاضة العربية الكبرى التي انطلقت من الوسط التونسي في كانون الأول/ديسمبر 2010 ما زالت حيّة، وإن أصيبت بانتكاسة بدأت قبل أربع سنوات.
وقد انطلقت الانتفاضة الجديدة من محافظة تطاوين الجنوبية وامتدّت إلى محافظتي قبلي ومدنين المجاورتين. وهي أشبه ما تكون بسابقاتها، أي الانتفاضات المحلّية التي كانت شتى محافظات تونس المحرومة مسرحاً لها واحدة تلو الأخرى، وأهمّها انتفاضة محافظة قفصة في عام 2008، وصولاً إلى الذروة المتمثلة بانتفاضة سيدي بوزيد التي شكّلت شهادة محمد البوعزيزي شرارتها. وكما يتذكر جميعنا اليوم بشيء من الحنين الحزين، لقد أشعلت انتفاضة سيدي بوزيد تونس الوطن برمّته، ومن ثمّ المنطقة العربية بأسرها في أجمل محطات التاريخ العربي المعاصر: ذلك «الربيع العربي» الزاهر الذي نشينا به، وهو عبارة عن أشهر قليلة بدا خلالها وكأن كابوسنا العربي المستديم أشرف على نهايته وبات تحقيق حلمنا قريب المتناول.
لكنّ رياح الثورة المضادة على اختلاف مهابّها قد تغلّبت على شهوات سفننا، لا سيما وأن طواقمنا كانت دون مستوى التحديات التاريخية العظيمة التي واجهتنا. فإما أن الخبرة نقصتها وإما كانت خبرتها قديمة غير متناسبة مع مقتضيات العصر الجديد، أما النتيجة فواحدة: انحسار الأمل الثوري برغد العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، وطغيان صدام القوى الرجعية على الساحة، رجعية النظام القديم المستبدّ مقابل رجعية الطامحين إلى استبداله باستبدادهم تحت رايات دينية.
وبعد، فلم ننفك نحذّر منذ بداية «الربيع العربي» من أي أوهام حول تحقيق الأماني الثورية بسرعة وبكلفة بخسة. فإن كلفة تحقيق الأحلام تزيد كلما كانت الكوابيس الحاضرة أكثر بشاعة، وما أبشع كوابيسنا! فلا يمكن تحقيق تغيير جذري نحو الأفضل في وضع يقوده منحناه الطبيعي نحو الأسوأ سوى بعملية شاقة طويلة الأمد. لذا أكّدنا منذ البداية أن ما انطلق من سيدي بوزيد يوم 17 كانون الأول/ديسمبر 2010 إنما هو «سيرورة ثورية طويلة الأمد» سوف تشهد لا مُحال محطات متتالية من الثورة والثورة المضادة، وسوف يعتريها عنف الرجعية التي لا تجيد لغة غير لغة السلاح.
ومهما بدا قارساً الشتاء الذي خيّم على منطقتنا منذ أربع سنوات، فإنه لم يستطع أن يقضي على براعم ثورتنا، ولم يكن بمقدوره أن يقضي عليها إذ أنها تتغذّى من الدَّبال الذي تنتجه الأنظمة القائمة بغزارة واستمرار. ولا تفلت منطقتنا من شرعة الحياة التي لخّصها جبران أجمل تلخيص بقوله: «في قلب كل شتاء ربيعٌ يختلج ووراء نقاب كل ليل صباحٌ يبتسم».
فها أن الربيع القادم يختلج أمام أعيننا وتبشّر به مرة أخرى تونس البطلة. والحال أن المغرب قد سبقها في هذا المسار. فإن الحراك الاجتماعي الذي انطلق منذ شهر تشرين الأول/أكتوبر الماضي على خلفية مقتل بائع السمك محسن فكري في مدينة الحسيمة الساحلية وعمّ منطقة الريف قبل أن يشمل سائر أرجاء المغرب، هذا الحراك لا زال حيّاً في منطقة الريف ينذر بأن يمتد من جديد إلى عموم البلاد. وكم من شبه بين محنتيّ البوعزيزي وفكري، وكأن جماهيرنا بحاجة للشهداء على طريقة محمد ومحسن كي تستلهم شجاعة النضال من شجاعة يأسهم. وقد سقط قبل أيام، يوم 22 أيار/مايو، أول شهيد في الحراك التونسي الجديد، محمد أنور السكرافي، وهو شهيد نضال وليس شهيد يأس، سقط في مواجهة قوات القمع.
إن الانتفاضة التونسية المنطلقة من سيدي بوزيد قبل ست سنوات ونصف السنة قد طالبت برحيل المستبدّ زين العابدين بن علي: «إرحل» (والمرادف بالفرنسية) كان أحد شعاراتها المركزية. أما الانتفاضة الحالية المستعرة في الجنوب التونسي فشعارها المركزي، الذي ردّده المتظاهرون في شتى أنحاء البلاد بما فيها تونس العاصمة، هو «الرخّ لا»، أي لا رضوخ ولا قنوع. وقد أدرك شباب تونس وشعبها العامل أن ترحيل رأس هرم النظام لا يساوي «إسقاط النظام»، تلك الغاية التي كان «الشعب يريد» تحقيقها، وهم يعلنون اليوم أنهم لن يتوقفوا عن النضال حتى تحقيق مطالبهم التي تدور حول موضوع التشغيل وكرامة العيش، كما كان الأمر في الانتفاضات التي مهّدت لـ«ثورة 17 ديسمبر».
ويبقى الشرط الرئيسي لنقلة نوعية في السيرورة الثورية العربية كامناً في انبثاق طليعة قادرة على استيعاب دروس الربيع الأول ودروس التجارب النضالية الشعبية التي تلته، بحيث تستطيع أن تحول دون هدر الربيع القادم، بل أن تؤسس عليه من أجل خلق شروط ملائمة لتراكم الإنجازات بما يسمح للسيرورة بالانتقال إلى محطة أكثر تقدّماً تقرّبنا من تحقيق حلمنا العظيم.
نقلا عن القدس العربي