شهد عدد من المدن الأمريكية يوم السبت الماضي تظاهرات «ضد الشريعة» لم يفت أحداً أنها في الواقع تظاهرات ضد الإسلام والمسلمين، تحاول التمويه عن طبيعتها العنصرية الرجعية للغاية بادّعائها التصدّي لتطبيق الشريعة في الولايات المتحدة، وهي خرافة تساوي التظاهر ضد خطر احتلال أمريكا من قِبَل سكان المرّيخ!
وقد كانت التظاهرات فاشلة، لم يشارك فيها سوى أعداد محدودة من العنصريين المعادين للإسلام والأغبياء الذين يؤمنون بما يحوكه الأولون من أساطير تستغل رُهاب الإسلام، ذلك المرض النفسي الذي بات واسع الانتشار في أيامنا بفضل تضافر مساعي العنصريين مع الخدمات الجليلة التي يقدمها لهم مجرمو تنظيمي القاعدة وتنظيم «الدولة» (داعش) الإرهابيين. ومن المريح أن تلك التظاهرات قد قابلتها يوم السبت ذاته تظاهرات مضادة تهتف ضد العنصرية ورهاب الإسلام فاقت الأولى زخماً وعدداً. غير أن الأمر يبقى مقلقاً على الرغم من حدود ما جرى إذ يترافق مع ازدياد كبير في نشاطات جماعات أقصى اليمين في الولايات المتحدة. وقد رأت هذه الجماعات في وصول دونالد ترامب إلى الرئاسة انتصاراً لها، لا سيما وأن محيطه يضمّ بعض أبرز رموزها، ناهيكم عن الهجومات الكثيفة التي شنّها على الإسلام والمسلمين خلال حملته الانتخابية.
فلو تحرّينا ما يقف وراء تظاهرات السبت لاكتشفنا جملة من الوقائع بالغة التعبير. فإن الجمعية التي دعت إلى التظاهر «ضد الشريعة» اسمها «أكت فور أمريكا» (ACT for America)، وقد تأسست عام 2007 وتدّعي أن عدد المنضمّين إليها يبلغ مئات الآلاف وأن لديها أكثر من ألف فرع في شتى أنحاء الولايات المتحدة. ومن نافل القول إن الجمعية شديدة الحماس في دعمها لترامب. أما زعيمة الجمعية ومؤسِّستها فقد اختارت لنفسها اسم بريجيت غابريال (Brigitte Gabriel) واسمها الأصلي حنان قهوجي، وهي لبنانية الأصل من بلدة مرجعيون في جنوب لبنان استوحت من تراث سعد حدّاد، قائد «جيش لبنان الجنوبي» العميل لإسرائيل. وقد يكون مما حدا بقهوجي إلى تغيير اسمها بشكل يكاد يكون مدعاة للنكتة أنها معقدّة من أصلها العربي الذي تكشفه بكل وضوح ملامحها ولون بشرتها.
لكن ما يبيّنه التحرّي أهم بكثير من تلك الامرأة الحاقدة على أصلها، إذ نجد أن مجلس إدارة الجمعية يضم أمريكياً آخر من أصل لبناني، هو أيضاً خرّيج من مدرسة اليمين المسيحي اللبناني المتعاون مع إسرائيل، يُدعى وليد فارس (هذا على الأقل لم يخجل من اسمه العربي) وكان مستشاراً لحملة ترامب الرئاسية. كما يضمّ مجلس إدارة الجمعية الجنرال المتقاعد مايكل فلين، الحاقد على الإسلام الذي أصبح أشهر من نار على علم منذ أن عيّنه ترامب مستشاراً للأمن القومي في إدارته في كانون الثاني/يناير الماضي وأضطُرّ إلى الاستقالة بعد أيام بسبب ارتباطاته المشبوهة بروسيا وبرئيسها فلاديمير بوتين، ذلك الرئيس الذي يجمع المعادون للإسلام على الإعجاب به.
فلنتابع، والآتي أكثر إثارة بعد. فقد كشف تقرير حديث لصحيفة «واشنطن بوست» بتاريخ 3 نيسان/أبريل أن لقاءً سرّياً عُقد في نيويورك في كانون الثاني/ديسمبر الماضي، جمع فلين ومعه جاريد كوشنر، صهر دونالد ترامب اليهودي الأرثوذكسي والوثيق الارتباط بدولة إسرائيل، ومعهما ستيفن بانون، أكثر مستشاري ترامب يمينية وعداءً للإسلام، جمع هذا الثالوث غير المقدّس بالشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد إمارة أبو ظبي. وحسب الصحيفة الأمريكية، فإن ولي العهد لم يُبلغ إدارة أوباما بزيارته على الرغم من أنها كانت لا تزال تتولّى تسيير أمور البلاد، بل علمت الإدارة بالزيارة من خلال بيان الطائرة التي أقلّت الشيخ. أما الغاية من الاجتماع، حسب تقرير «واشنطن بوست»، فكانت الاتفاق على خطوات من أجل التقريب بين إدارة ترامب وموسكو. والحال أن الشيخ محمد قد زار بوتين مرّتين في ذلك العام 2016 ليبحث معه شروط ارتداد روسيا ضد إيران، حسب المصدر ذاته. ونستطيع أن نخمّن بسهولة أن أحد مواضيع النقاش بين الرجلين كان وضع ليبيا حيث تلتقي دولة الإمارات مع روسيا بوتين ومصر عبد الفتّاح السيسي في دعم خليفة حفتر، كما هو معلوم.
ومعذرة مُسبقة من زيادة الارتباك لدى القرّاء بلفت نظرهم إلى أن تركيا الرئيس رجب طيّب أردوغان، الذي بات صديقاً حميماً لبوتين بعد أن قدّم له الاعتذار في الخريف الماضي عن اسقاط قواته للطائرة الحربية الروسية، أن تركيا بالذات، من خلال شركة يمتلكها أحد النافذين في رسم سياستها الخارجية، قد استأجرت خدمات مايكل فلين في الخريف الماضي. وقد كتب هذا الأخير مقالاً صدر في الصحافة الأمريكية يوم الانتخابات الرئاسية يدعو فيه واشنطن إلى دعم أردوغان ضد خصمه اللدود فتح الله غولن. وحسب تقرير لصحيفة «وول ستريت جورنال» بتاريخ 24 آذار/مارس الأخير، فإن فلين تباحث في نيويورك في تلك الفترة نفسها مع مسؤولين أتراك منهم صهر أردوغان والوزير في حكومته، بيرات البيرق، في أمر اختطاف غولن ونقله إلى تركيا.
وها هي تركيا ومعها إيران، سند نظام بشّار الأسد بالتعاون مع روسيا، تهبّان للدفاع عن قطر التي تتعرّض لحملة مسعورة من قبل السعودية والإمارات بتشجيع من ترامب، بينما يعرض بوتين مساعيه الحميدة في توحيد الصف الخليجي. وخلاصة الحديث أن خير عنوان لسياسة منطقتنا الشرق أوسطية هو ذلك الذي اشتهر عنواناً لبرنامج زياد الرحباني الإذاعي في السنوات الأولى لحرب لبنان بعد اندلاعها سنة 1975، ألا وهو «اختلط الحابل بالنابل»!
كاتب وأكاديمي من لبنان
نقلا عن القدس العربي