من المعلوم أن ما من منطقة في العالم تضاهي الشرق الأوسط في استشراء «نظرية المؤامرة»، وهي التسمية التي تُطلق على النزعة إلى تفسير كافة الأحداث السياسية البارزة بعزيها إلى مؤامرة خارجية هي في معظم الأحوال من نسج خيال «المحلّلين» الذين يشيرون إليها. صحيح أن لِاستشراء هذا الداء السياسي سبباً موضوعياً هو أن منطقة الشرق الأوسط كانت ولا تزال مسرح «مؤامرات» حقيقية، أي اتفاقات تُعقد من وراء الستار. وأشهر هذه الاتفاقات على الإطلاق ذلك الذي تقاسم البريطانيون والفرنسيون بموجبه، خلال الحرب العالمية الأولى، المناطق التي كانت تركيا تسيطر عليها في إطار الإمبراطورية العثمانية، والمقصود بالطبع اتفاقية سايكس/بيكو لعام 1916.
غير أن هذه الحقيقة التاريخية قد حفّزت النزعة المذكورة أعلاه لدى سكّان الشرق الأوسط بما بات من السمات السياسية المميِّزة للمنطقة، يلاحظها أي زائر أو مراقب أجنبي. ويأتي اللجوء إلى نظرية المؤامرة في منطقتنا سواء بنتيجة منطق سياسي محدود ينزع إلى «تفسير» لا يتعدّى درجة الصفر في التفكير السياسي، أو بصورة متعمّدة يرمي المتكلّم من ورائها إلى التنصّل من مسؤولية هزيمة ما أو التشهير بأمر لا يطيب له، فيحرّض عليه ديماغوجياً بتصويره كمؤامرة تُديرها جهة يبغضها الرأي العام. هذا النوع الأخير من نظرية المؤامرة منتشرٌ لدى حكّام الشرق الأوسط انتشار الأنواع الأخرى لدى العامة. وقد رأينا شاه إيران المخلوع سنة 1979، والذي كان قد استرجع عرشه سنة 1953 بفضل مؤامرة حقيقية دبّرتها وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (كما أثبتت الوثائق التي جرى نشرها في السنوات الأخيرة بعد نزع صفة السرّية عنها)، رأينا شاه إيران المخلوع هذا بعينه يعزي سقوطه إلى مؤامرة أمريكية، بل رأينا بعض أنصاره يتّهمون آية الله روح الله الخميني بأنه كان «عميل الأمريكان». وعلى المنوال ذاته، رأينا أوساط الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك وأنصاره يعزون «ثورة 25 يناير» إلى مؤامرة أمريكية، شأنهم في ذلك شأن معظم الذين ازدهر «الربيع العربي» ضدّهم. وربّما كان أوقح هؤلاء الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح الذي شرح أن الربيع العربي ليس إلا «مجرد ثورة إعلامية تديرها الولايات المتحدة من غرفة في تل أبيب» («الجزيرة.نت»، 2 آذار/مارس 2011). كما رأينا لاحقاً أوساط النظام المصري تنسب فوز محمد مرسي في الانتخابات الرئاسية لعام 2012 إلى «مؤامرة أمريكية» وتصوّر الانقلاب العسكري الذي قاده عبد الفتّاح السيسي وكأنه من وحي ثورة وطنية ضد «الأمريكان»، وهلمّ جرّا…
أما نظرية المؤامرة عند العامة في منطقتنا، فهي تنبع من إيمان ساذج بأن القوى العظمى كلّية الجبروت، لا يفلت شيءٌ من سيطرتها ولا يقدر على إلحاق هزيمة بها سوى من يناهزها قوةً. هكذا عندما كانت منطقتنا مسرحاً رئيسياً للحرب الباردة بين القوتين العظميين، الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي، اعتدنا على أن يتّهم أنصار كل طرف ما لا يروق لهم من تطوّرات سياسية بأنها نتاج مؤامرة حاكها الطرف الآخر. أما بعد سقوط الإمبراطورية السوفييتية وبقاء الأمريكية وحدها في الميدان، باتت تُعزى إلى هذه الأخيرة كل شاردة وواردة في تاريخنا السياسي المعاصر. ولا يخشى دعاة نظرية المؤامرة من أعظم المفارقات، بل يزيد إصرارهم كلّما بدت المؤامرة التي يؤكدون إدراكهم لها منافيةً للعقل والمنطق. هكذا يصرّ بعضهم على أن اعتداءات 11 أيلول/سبتمبر 2001 مؤامرة أمريكية وأن أسامة بن لادن شيخ العملاء الأمريكيين. أما حجتهم الأولى فهي أنه لا يُعقل في نظرهم أن يفلح بعض العرب في تنظيم عملية إرهابية على مثل ذلك النطاق داخل الولايات المتحدة (وتجمع خلفية هذا التفكير بين مبالغةً في قدرة واشنطن وازدراء بقدرة عربٍ على النجاح بأي شيء، مفيداً أكان أم إجرامياً!). وأما حجتهم الثانية، فهي أن واشنطن كانت هي المستفيدة الأولى من اعتداءات 2001، انتهزتها فرصةً للتدخّل العسكري في أفغانستان وبعض جمهوريات آسيا الوسطى التي كانت تنتمي إلى الاتحاد السوفييتي سابقاً، ومن ثمّ لاحتلال العراق.
ولو استندنا إلى المنطق القائل إن المستفيد من أي حدث هو صانعه، لتوصّلنا إلى قناعة راسخة بأن صدّام حسين كان عميلاً أمريكياً بامتياز إذ قام باجتياح الأراضي الإيرانية عندما كان أنصار «خط الإمام» يحتلّون السفارة الأمريكية في طهران، مدشّناً حرباً مدمّرة بين البلدين دامت ثماني سنوات بما أسعد أمريكا ودولة إسرائيل، وقام بعدها باجتياح الكويت موفّراً لأمريكا فرصة تاريخية لنشر قواتها في منطقة الخليج على نطاق لم يسبق له مثيل بحيث بلغت هيمنتها الإقليمية ذروتها التاريخية.
وتصطدم نظرية المؤامرة بإشكال في تطبيق المنطق ذاته على الاحتلال الأمريكي للعراق الذي كانت إيران المستفيد الرئيسي منه بما لا جدال فيه. وحيث أن موازين القوى لا تتيح عزي الاحتلال الأمريكي للعراق إلى طهران وكأنها تدير السياسة الأمريكية (مثلما يتصوّر بعض الناس أن دولة إسرائيل تسيّر أمريكا، وكأن «الذنَب يحرّك الكلب»)، تصبح «المؤامرة» هنا تواطؤًا بين واشنطن وطهران على تسليم الأولى العراق للثانية. هكذا تكون الولايات المتحدة بحكم هذا المنطق قد خاضت في الاحتلال الأعلى كلفة في تاريخ حروبها منذ الحرب العالمية الثانية كرمى لعيون حكّام إيران. أما إجماع المؤسسة السياسية الأمريكية على أن احتلال العراق كان أكبر فشل في تاريخ الهيمنة الأمريكية، فذرّ للرماد في العيون أو سذاجة جماعية تدحضها الفطنة المتفوّقة لدعاة نظرية المؤامرة.
كما يتصوّرون أن اتّكال واشنطن على القوات الموالية لإيران في محاربة تنظيم داعش في العراق، وهو التنظيم الذي أعلنته الدول الغربية برمّتها عدوّاً رئيسياً في المنطقة، إنما هو تأكيد للمؤامرة. ولا يسعهم فهم أن ذلك الاتّكال، شأنه في ذلك شأن اتّكال واشنطن على القوات الكردية (الشيوعية الأصل) في محاربة التنظيم نفسه في سوريا، ليس سوى دليل ساطع على الضمور الكبير الذي لحق بأمريكا منذ هزيمة مشروعها في العراق. وما اتّكال إدارة دونالد ترامب الحالي على روسيا فلاديمير بوتين من أجل وقف الحرب في سوريا والحدّ من نفوذ إيران فيها سوى دليل آخر على حدود قدرات تلك القوة التي أصاب ماو تسي تونغ لمّا وصفها بأنها «نمر من فلاذ» في الأمد القصير، لكنّها في الأمد الطويل «نمر من ورق».
نقلا عن القدس العربي