من حيث عَلِم أو لم يعلم، فإن الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان، في الخطاب الذي ألقاه في حشود أنصاره يوم السبت الماضي بمناسبة مضي سنة على محاولة الانقلاب الفاشلة التي جرت ضدّه يوم 15 تموز/يوليو من العام الماضي، بدا وكأنه يقلّد الحجّاج بن يوسف الثقفي، أحد أشهر السفّاحين في التاريخ العربي الإسلامي. فبوعيده «سنقتلع رؤوس الخونة»، ذكّرنا الرئيس التركي، ولو بصورة مخفّفة، بالخطبة الرهيبة التي ألقاها الحجّاج في مسجد الكوفة في العراق: «إنّي لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها، وإنّي لصاحبها، والله لكأنّي أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى».
يا لها من مسافة عظيمة تفصل تركيا كما كانت عند بداية «الربيع العربي» سنة 2011 عن تركيا الحالية. في ذلك الحين، كانت تركيا بقيادة أردوغان تشكّل القطب الديمقراطي الحضاري في مثلّث إقليمي لنماذج حكم تدّعي استلهام الإسلام، بل يدّعي قطباه الآخران تطبيق الأحكام الدينية جملة وتفصيلاً، قصدنا طبعاً المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية. فإزاء هذين القطبين القائمين على البطش والإرهاب باسم الدين، كانت تركيا تبدو كمنارة لحكم أرسى سلطة عصرية ما انفكّت، منذ تولّي حزب العدالة والتنمية زمام الأمور سنة 2002، تتقدّم على درب تبنّي معالم الديمقراطية والحرّية وحقوق الإنسان، بما فيها النبذ الحضاري لذروة القمع المتمثّلة بعقوبة الإعدام (وقد تمّ إلغاؤها في تركيا سنة 2004).
وكان الكثيرون من سكّان المنطقة العربية، بل غالبيتهم العظمى وباختلاف مشاربهم، يحلمون خلال ذلك «الربيع» بأن تسلك بلدانهم الطريق التي أدّت بتركيا إلى ما كانت عليه آنذاك. فبينما سعت جماعة الإخوان المسلمين إلى التشبّه بالحزب التركي الحاكم إلى حدّ تبنّي بعض فروعها أسماء حزبية مماثلة لاسمه («حزب العدالة والتنمية» في المغرب و«حزب الحرية والعدالة» في مصر و«حزب العدالة والبناء» في ليبيا)، كان منافسوها المؤيدون لفصل الدين عن الدولة يحيلون هم أيضاً إلى النموذج التركي دعماً لوجهة نظرهم. وقد أسعدهم أردوغان نفسه وأغاظ الإخوان المسلمين عندما امتدح العلمانية أثناء زيارته للقاهرة في سنة «الربيع العربي».
غير أن تلك السنة ذاتها شهدت بداية انعطاف أردوغان في اتجاه سلطوي قمعي بدأ بالتضييق على الحرّيات، ولا سيما المتعلّقة بالصحافة والإنترنت وسائر وسائط التواصل الاجتماعي، ثم تصاعد في وجه الحشد المعارض له في ميدان «غيزي بارك» عام 2013، إلى أن بلغ ذروته إثر محاولة الانقلاب الفاشلة في العام الماضي. وقد انتهز الرئيس التركي هذه المناسبة الأخيرة لينجز حملة قمعية شملت حتى الآن اعتقال حوالي أربعين ألف شخص (منهم أقل من ثلاثة آلاف عسكري اتهموا بالمشاركة في الانقلاب)، وتسريح ما يزيد عن مئة وعشرين ألف موظّف من شتّى فروع الدولة، من تعليم وشرطة وقضاء وسواها. وها أن أردوغان يعد باستكمال الردّة القمعية بإعادة تشريع عقوبة الإعدام، بحيث يستكمل إعادة تركيا إلى النمط السلطوي الذي سادها خلال القرن العشرين منذ تأسيس جمهوريتها على أنقاض الدولة العثمانية، ولو بحلّة إسلامية محافظة هذه المرّة بحيث باتت تركيا الحالية تبدو وكأنها مزيج معاصر من التراث العثماني وتراث مصطفى كمال.
وما أكبر مصيبتنا وقد بتنا واقعين بين مطرقة نموذج انقلابي أرسى حكماً سلطوياً، هو نموذج مصر عبد الفتّاح السيسي، وسندان نموذج مضاد قام على إحباط محاولة انقلابية، لكنّه يسير هو أيضاً على درب إرساء حكم سلطوي. طبعاً، يواجه أردوغان ميزان قوى يختلف عمّا عرفته مصر إثر الانقلاب فيها، وقد صوّت ضدّه في الاستفتاء الدستوري في 16 نيسان/أبريل الماضي 48،8 بالمئة من الناخبين القاطنين داخل تركيا، أي ما يناهز نصفهم. والسبب الرئيسي في ذلك أن الانقلاب المصري سحق أكبر خصم له، أي جماعة الإخوان المسلمين، بينما لم يكن بوسع أردوغان أن يقضي على أكبر خصم له، ألا وهو حزب الشعب الجمهوري الذي عارض هو أيضاً المحاولة الانقلابية. بيد أن منحى السياسة التركية العام يصبّ بصورة جليّة في المجرى الرجعي الحالي للرياح في منطقتنا.
وقد انضاف ثنائي المطرقة المصرية والسندان التركي إلى ذلك الآخر الذي يتألف من مطرقة العصبية الدينية/الطائفية الإيرانية وسندان العصبية الدينية/الطائفية السعودية، بحيث انتقلنا من مثلّث 2011 الذي سلف ذكره إلى مربّع يشكّل إطاراً لمرحلة الردّة الرجعية التي دخلت فيها منطقتنا مع انتكاسة «الربيع العربي» بدءًا من عام 2013. وإن كان ثمة أمر واحد أكيد إزاء هذا الوضع، فهو أن السيرورة الثورية العربية لن تنهض من جديد ولن يحلّ ربيع ثانٍ محلّ الشتاء الحالي سوى بتخطّي الإطار الخانق الذي يشكّله المربّع المذكور بأكمله.
نقلا عن القدس العربي