متطلبات العقل قبل السياسة

أحد, 2015-01-04 22:59
توجان فيصل

علمتنا "التجربة" ألا نأخذ أرقام الموازنة الأردنية على محمل الجد، مع أن "العقل" وحده كان يفرض علينا ألا نهدر نعمته علينا بتصديقها. ومثال صارخ على حال موازناتنا أن الحكومة الحالية لم تضمّن ميزانية العام الماضي مبلغ ثلاثمائة مليون دولار هي قيمة قرض روسي

أخذ قبل ثلاث سنوات بفترة سماح انتهت العام الماضي.. متعذرة بنسيانه!

نسيان حكومة ووزارة مالية لهكذا استحقاق"لا يدخل العقل"، وحدوثه أو استسهال الفهلوة بهذه الدرجة يؤشر على درجة من غياب العقل. ولو كان هؤلاء يعملون لدى أصغر شركة لاستحقوا الفصل دونما تعويض. والمؤسف أن الحكومة هي ذاتها التي كانت قائمة قبل العام 2013 وهي التي وضعت موازنته والمسؤولة عن مالية الدولة أثناءه. و"لفلفتها" المكشوفة لعجز بقدر القرض في موازنة 2014 جرى تحديدًا لزعم إنجاز اقتصادي ومالي يبرر بقاءها.

فما جرى اعتماده، بل واستنزافه كمكتشف جديد في السنوات التي سبقت، إصدار ملاحق للموازنات تغطي بمعونة أو قرض كلما لاحت فرصة لأي منهما. وتلك الملاحق كانت مضمونة الإقرار في جلسة واحدة للنواب وبدون أي خطابات بعكس خطابات المطالب الشعبية الرنانة المطولة عند إقرارالموازنة الأصل والتي تحظى بتغطية إعلامية مكثفة. فالبصم على كل ما تأتي به الحكومة مضمون بأثمان تراجعت مؤخرًا لمجرد أن يبقى النائب في مقعده. فحل مجلس النواب سلاح مغرٍ لكون الشعب رافضًا لسلسلة المجالس الأخيرة بقدر رفضه للحكومات المرافقة أو يزيد.. كون الثانية على الأقل لا تزعم أن الشعب جاء بها وتنطق باسمه!.

ولكن الطريف أن هذا بالذات أصبح مما تزعمه الحكومة الحالية. ومنذ قيامها قبل سنتين هي تزعم أنها "حكومة منتخبة" لمجرد أن رئيسها انتخب في بلدته للنيابة لاعتبارات عشائرية وخدمية وليست سياسية. وهو لم يستطع أن يزعم وجود فرصة لفوزه في انتخابات نيابية على مستوى المملكة ولو دون تحقيق أغلبية نيابية لقائمته تؤهله لتشكيل حكومة. فالقوائم على مستوى المملكة كانت متاحة في انتخابات عام 2010، والمنافسة السياسية كانت شبه منعدمة كون الأحزاب التي لديها أي درجة من الثقل الشعبي، وكل الشخصيات الوطنية الوازنة قاطعت تلك الانتخابات. فجرت مقاطعة من قبل الناخبين بدرجة ألزمت الحكومة بتسول تسجيل الشعب كناخبين على أبواب المولات واللحاق بهم لمدارسهم وجامعاتهم وحتى لدوائر الدولة ومؤسساتها وللشركات (أقصتهم شركات ومولات لكونها بدأت تخسر زبائنها وروادها)، بعد أن تورطت حكومة فايز الطراونة وهيئة الانتخابات التي اجتُرحت لزعم استقلالية ونزاهة العملية، باشتراط يخرق الدستور في قانون الهيئة، بحكر صفة الناخب على من يسجل نفسه لديها!.

كان ذلك بظن ساذج أن هذا استفتاء على شعبية قوى المعارضة ستكسبه الحكومة! والنتيجة أن الحكومة لم تعد تملك ناخبين تزعم أنهم انتخبوا مرشحيها كما كان يجري سابقًا عند مقاطعة أقل حجمًا وبانتحال أصوات المقاطعين أو بسلبهم بطاقاتهم الانتخابية أو التصويت باسم الأموات بزعم (حين يضبطوا) أن خللاً محدودًا شاب شطب أسماء المتوفين! وتخبطات تلك الحكومة أدت لعزلها فيما أسمي "هبة تشرين" فور انتهائها من هكذا انتخابات. ولأن ظرف الهبة الشعبية لم يكن مما يجازف في ظله بفرصهم طامعون آخرون بالرئاسة، جاءت الفرصة للنائب عبدالله النسور الذي غياب الأهلية التام عن الحكومة السابقة ومجلس النواب الذي أتت به كان أغراه بأن يتخذ دور المعارض الواعظ (هو غير المعارض الجاد من حيث الهدف النهائي)، فجيء به لتسكين المعارضة التي انتقلت، بمقاطعة النخب للانتخابات، للشارع بمعناه الواسع. كمثال: أغلق سائقو سيارات التاكسي بسياراتهم شوارع رئيسة في عمان وعطلوا الحركة في العاصمة وكانوا على وشك إغلاق الطريق العريضة الواصلة لعمان بالزرقاء، ثاني أكبر مدينة وأول أسخن مدينة سياسيًا. ولهذا أطلقت صحف غربية على تلك الهبة التي تفتقت بعد ظن أن الحراك أخمد، اسم"الثورة الصفراء"!.

الموازنة الحالية، كسابقاتها، تكرار لخطاب سياسي يمهد لسياسات غير شعبية، ومهما بلغت بلاغة ذلك الخطاب (وهو ليس كذلك) في تبرير الحاجة المتجددة لجمع المليارات بتسوّلها منحًا أو توسّلها قروضًا تضاف لما حمّل للشعب المفقر وصولاً لأجيال قادمة، وزعم تجدد تلك الحاجة حتى بعد فرض ضريبة على الدخول الشحيحة ورفع الأسعار والكلف على كل ضرورات الحياة وعدم الأخذ بنتائج هبوط سعر النفط.. وبعد هذا كله التأمل في كيفية رفع الدعم عن "خبز" المواطن (دعم مزعوم برأينا كون استيراد الحكومة له بصفقات أسعار تفضيلية أو حتى توسّل معونة يظل أسهل) باعتباره أحد أهم أشكال "الهدر" الجاري في الموازنة.. في حين ترتع فئة معروفة بالاسم و"الصفقة" أو "الصفقات" في مليارات جعلت حياتها (ككل حديثي النعمة من غير مستحقيها) أشبه بالأساطير التي يعجز غالبية المواطنين عن استعاب مسمياتها ناهيك عن مدلولاتها وكلفها.. أمر يعوزه "العقل" قبل "السياسة"!.