تخبّط السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط

أربعاء, 2017-07-26 09:27

ليس تفكيك سياسة منسجمة كافياً لتشكيل سياسة منسجمة بديلة، بل إن تفكيك سياسة قائمة بدون صياغة مُسبقة لسياسة بديلة منسجمة واعتماد هذه السياسة الجديدة مرجعاً في عملية التفكيك وإعادة التركيب، إنما يؤدي على الأرجح إلى سياسة متخبّطة. وهذا بالضبط ما أصاب إدارة دونالد ترامب في الشرق الأوسط حيث يتفاقم يوماً بعد يوم مشهد تخبّطها الذي يتناغم تماماً مع تنافر الأنغام الشامل الذي بات يميّز رئاسةً لم يشهد لها تاريخ الولايات المتحدة مثيلاً.
ففي تصميمه الموَسوَس على تفكيك سياسة إدارة باراك أوباما في الشرق الأوسط بإيعاز من «كبير استراتيجييه» ستيفن بانون الغارق في اليمينية وكراهية الإسلام، أفرز ترامب سياسة تتّسم اليوم بتخبّط ما بعده تخبّط، لا سيما وأن الإدارة الجديدة متنافرة تنافراً عظيماً في تأليفها من حيث جمعها بين «مهندس» الاستراتيجية الرئاسية الذي سبق ذكره، وهو رجل أيديولوجي ليست لديه أدنى خبرة في هندسة السياسات الحكومية، ووزير خارجية لا خبرة له هو الآخر سوى في تمثيل مصالح الشركات النفطية، وعسكرييْن في منصبي وزير الدفاع ومستشار الأمن القومي يمثّلان وجهات نظر معهودة لدى البنتاغون.
فبغياب أي انسجام فعلي، بل حتى ظاهري، في سياسة إدارة ترامب الشرق أوسطية، إذا استثنينا مركزية عدائها المعلن لإيران، يصبح وصف سياسة الإدارة السابقة ومن ثمّ الإشارة إلى محطات تفكيكها الطريقة المنهجية الوحيدة في تفسير سياسة الإدارة الجديدة. فلنتبع هذه الطريقة ونبدأ إذاً بتلخيص سياسة أوباما الشرق أوسطية. إزاء العاصفة التي هبّت على المنطقة العربية منذ بدء «الربيع العربي»، فضّل أوباما المواكبة والاحتواء على المواجهة، واتكّل في خياره ذاك على دور المحور القطري/التركي ورعاية هذا الأخير لجماعة الإخوان المسلمين. كما فضّل أوباما المهادنة على المواجهة في سياسته تجاه إيران، مراهناً على التنافس داخل الجمهورية الإسلامية بين جناح المتشدّدين، وأهمّ قوة فيه الحرس الثوري مدعوماً من المرشد الأعلى علي خامنئي، وجناح الإصلاحيين الذي يمثّله رئيس الجمهورية حسن روحاني. 
وقد ترافقت تلك السياسة في سوريا بدور أمريكي منخفض الكثافة في وجه نظام آل الأسد، حيث أوكل أوباما إدارة ملفّ المعارضة للمحور القطري/التركي واكتفى ببرنامج شديد التواضع إلى حدّ بدا معه وكأنه رمزي أو من باب رفع العتب، قام على إعداد قوة محدودة العدد والفاعلية على الحدود السورية الأردنية بوجه خاص. هذا وقد حرصت واشنطن على منع إمداد قوات المعارضة السورية بوسائط دفاع مضاد للطيران ولم تمسّ مباشرة بقوات النظام حتى لمّا أتيحت لها فرصة تسديد ضربة لها عند تخطّي دمشق لذلك «الخط الأحمر» الذي رسمه أوباما ذات يوم في شأن السلاح الكيماوي. وقد منح أوباما الأولوية في الساحة السورية لمحاربة تنظيم داعش، مع ارتكاز مجهوده الحربي على الجمع بين القصف الجوّي والاعتماد الميداني على القوات الكردية.
أما تفكيك تلك السياسة من قِبَل دونالد ترامب فقد بدأ بقصف قاعدة جوية للنظام السوري إثر معاودة هذا الأخير استخدام السلاح الكيماوي، مع افتخار الرئيس الجديد بالفرق بين استعداده على الضرب وخشية سلفه، وقد امتعضت موسكو بالطبع من تلك الموقعة. ثمّ كان تخلّي ترامب عن سياسة احتواء الانتفاضة العربية والتعاون مع المحور القطري/التركي والإخوان المسلمين، وتبنّيه المضاد لسياسة محور السعودية والإمارات المتحدة ومصر، بل تشجيعه لهذا المحور على شنّ حملة مسعورة ضد قطر، أسعدت طهران بإضعافها للجبهة العربية القائمة في مواجهتها كما أدّت إلى بلبلة كبيرة في واشنطن لاصطدامها بحاجة وزارتي الدفاع والخارجية الأمريكيتين للخدمات الجليلة التي تقدّمها قطر لهما. 
وكانت المحطّة اللاحقة إيكال ترامب لبوتين مسؤولية الإشراف على وقف إطلاق النار الموضعي الذي أعلنه الرجلان أثناء قمة العشرين في مدينة هامبورغ الألمانية. ثمّ جاء قبل أيام قليلة قرار واشنطن وقف برنامج تدريب وتسليح قوة سورية، بما رأى فيه المراقبون دليلاً على قبول ترامب بنظام آل الأسد وتنازلاً آخر أمام رغبات موسكو.
هذا ويبقى جانبان من سياسة أوباما الإقليمية قيد التنفيذ في ظل الإدارة الجديدة، أحدهما طوعاً وثانيهما اضطراراً. الأول هو الاعتماد على القوات الكردية في محاربة داعش، وقد صعّدت واشنطن دعمها لتلك القوات بما أغاظ حليفها التركي دافعاً إياه إلى مزيد من التقارب مع موسكو. أما الجانب الثاني فهو مواصلة العمل بالاتفاق النووي الذي عقدته إدارة أوباما مع طهران، وقد عجزت الإدارة الجديدة حتى الآن عن جمع شروط نقضه بالرغم من رغبتها المعلنة بذلك، وهي تصعّد تهديدها الكلامي لطهران الذي يقابله تصعيد فعلي لموقف طهران ضد واشنطن مع رصّ صفوف الحكم الإيراني.
والمحصّلة أن السمة الغالبة لسياسة إدارة ترامب في الشرق الأوسط هي التخبّط وبصورة مذهلة. أما الذين يُخبط بهم عرض الحائط، فهم طبعاً ودائماً سكّان المنطقة.

نقلا عن القدس العربي