حين يجد المرء نفسه في ليلة حالكة تتمدد فيها الساعات وليس هناك ما يوحي بقرب انتهائها، يجد نفسه باحثا عن اية بارقة أمل ليحافظ على سلامة عقله من جهة وليواصل الحياة بأي شكل كان،
آملا ان ينجلي الظلام. ولأن بداية كل عام جديد، تحمل في طياتها، نهاية عام منصرف بكل ما جلبه من أحداث، خاصة اذا كانت الاحداث السياسية مأساوية، كالتي نعيشها في البلدان العربية، منذ أعوام، فلابد، ولو لأيام، ان نستجمع شتات أفكارنا وأن نتشبث بالأمل، نغريه بالبقاء معنا لئلا يذوي ونذوي معه.
نحن العراقيون بأمس الحاجة الى الأمل. اذ ان اسمنا ذاته المرتبط ببلدنا، الذي نحمله منذ ولادتنا، وورثناه عبر أجيال وأجيال على مدى آلاف السنين، معتقدين بأنه خالد حتى الأبد، ولم يخطر ببال أحد منا التفريط به، بات مهددا بالأستبدال، مثل بضاعة قديمة لم تعد صالحة للاستخدام، بمسميات طائفية وعرقية أدخلت الى بلادنا عنوة، بحجة ان العراق تم تلصيقه بالقوة من قبل المستعمر البريطاني، وجاء المحتل الأمريكي بجيوشه وقصفه الجوي ﻠ«يحرر» العراقي من اللصقة البريطانية، ليصبح العراقي المعتز بعراقيته، منتميا الى شرائح بلد تشبه شرائح اللحم الخفيفة بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان. المحاججة الثانية التي يبيعونها لنا هي ان العراق مكون من قوميات وطوائف متعددة لذلك وجب تقسيمه لتتمتع القوميات والطوائف بحقوقها وحصتها من النفط، وكأن أمريكا والمملكة المتحدة والهند والصين، بل الأغلبية الساحقة من دول العالم، مكونة، كل منها، من شعب ينتمي الى قومية واحدة ودين واحد، والعراق فريد من نوعه!
لجأ دعاة التقسيم الى كل الطرق الممكنة من الأستعانة بالمحتل، المرة بعد الأخرى، الى العمل بمثابرة على رسم خارطة جديدة للمدن والعراق كله. وأجبر المواطنون على الهجرة القسرية خوفا من الميليشيات، بأنواعها، والقصف العشوائي، والبراميل المتفجرة، وقوات النظام الطائفية المساوية في ارهابها لأكثر التنظيمات المتسللة الى العراق ارهابا. يقول وزير خارجية النظام إبراهيم الجعفري، بلا حياء، ان «اعداد النازحين ارتفع الى مليوني نازح»، وبدلا من اتخاذ الخطوات العملية لمعالجة مأساة النازحين، التي جاوزت حدود التصور، انطلق مكررا ما أصبح موضة لا يستطيع أي سياسي الاستغناء عنها اذا ما اراد المحافظة على كرسيه، أي «ضرورة استمرار مساندة العراق في الحرب على الإرهاب». ولأن العار خصلة مشتركة بين ساسة «العراق الجديد»، تصدى حيدر العبادي، رئيس وزرائه، لينافس الجعفري في غثائه، وفي استجدائه الحماية الأجنبية، قائلا، في بروكسل، أن العراق بحاجة الى مساعدة دولية على الصعيد العسكري والاسناد الجوي والى تدريب وتسليح والقوات الامنية بالإضافة الى وضع حد لتسلل الارهابيين الاجانب الى داخل حدوده. ماذا عن النازحين المتكومين في المخيمات بأنتظار الفرج؟ يبين العبادي، القيادي في حزب الدعوة الطائفي، المتمتع بالمسكن والمأكل والحماية بالمنطقة الخضراء، ان الاولوية هي لوصول المساعدة العسكرية الدولية ثم «يتم اعمار المناطق المحررة من الارهابيين لتشجيع سكانها النازحين على العودة الى منازلهم». وبما ان الجنرال الأمريكي جون آلن، منسق التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) قد صرح قائلا بأن القضاء على داعش قد يستغرق ثلاث سنوات، فهذا يعني ان خطة العبادي لاعادة النازحين الى بيوتهم ستتطلب عشر سنوات على الأقل. حينئذ، اذا ما استمرت سياسة الطائفية والفساد والاستجارة بالاجنبي، سيتضاعف عدد النازحين قسرا عدة مرات. وآخر مثال ان عدد النازحين الى مدينة سامراء، شمال بغداد، وحدها خلال الأيام القليلة الماضية فقط بلغ مائة ألف نازح. هذه الأعداد جاءت من المناطق المحيطة بسامراء، نتيجة هجوم المليشيات والقوات الإيرانية والقصف الجوي لقوات الاحتلال الأمريكي، الذي عاد ليسمى قوات التحالف، بعد أن أعلنت 70 دولة المشاركة فيه.
ان مخاوف التفتت حقيقية لأن لتقسيم العراق ونهب ثرواته دعاة لا يكلون. كما ان تهجير السكان مستمر بلا انقطاع. ومع ذلك كله، نقول لا نزال متفائلين. فما هو مصدر هذا التفاؤل؟ أملنا الذي نعتاش عليه في حلكة الليل ونستمد منه الحياة هو ان مخططات التقسيم فشلت حتى الآن. ومن يعرف ما مر به العراق منذ عام الأحتلال في 2003، وسنوات الحصار الجائر على مدى 13 عاما، ومن قبلها الحرب العراقية الأيرانية (1980 – 1988)، واحتلال الكويت وما تلاه من حرب استنزاف، يدرك جيدا ان صلابة العراقي المقاوم للتقسيم لا يرقى اليها الشك، ولا يمكن الاستهانة بها، وان وطنيته معجونة بدمه تاريخا وثقافة.
وتذكيرا لمن يروج للتفتيت: أن الجغرافية البشرية للعراقيين تتكون، أولا، من السكان القدامى للمدن الملتفة حول النهرين والنامية بالأصل بسبب المواصلات النهرية من منابعهما الى مصبهما. أغلب العوائل العراقية، منذ القدم لها فروع وتشعبات في المدن من الشمال الى الجنوب، تبعا لشروط التجارة والتعامل اليومي. فتختلط العوائل والثقافات واللغات وصلات النسب ويتجدد هذا الإختلاط جيلا بعد جيل. وتتكون هذه الجغرافية البشرية ثانيا من القبائل العربية التي إستقرت في القرنين الأخيرين، والتي أستقر بعض فروعها في الفرات الأعلى والجزيرة وإستقرت فروعها الأخرى في الفرات الأوسط كحاجز ضد التمدد الوهابي، وارتبطوا بالمرجعيات الشيعية بقبول من العثمانيين. فصلات النسب العشائرية تضاف هنا الى التفاعل المدني الأقدم، وتختلط العشائر والعوائل المتجاورة فيما بينها كما هي حال أهل كركوك وأربيل والموصل حيث يتصاهر العرب والأكراد والتركمان، والشيعة والسنة، والمسيحيون واليزيديون والشبك، مع احتفاظهم بهوياتهم ضمن الهوية الأكبر– العراق. هذه الجغرافية البشرية تتمثل، ثالثا، في بغداد ذاتها، وسكانها الذين يشكلون ربع سكان العراق بنفس نسب السكان من جميع محافظاته تقريبا. فأهل العراق ليس لديهم عداوات مع أنفسهم.
الا ان الوهن بدأ يسري في النسيج الإجتماعي في العقود الأخيرة، وأدت اطماع النفط والسلطة الى صناعة هويات متصارعة، مسندة أو مدفوعة دفعا، بأغراض إستعمارية وصهيونية وإقليمية أخرى، خصوصا بعد الغزو والإحتلال وخيانات النخب، لتجر البلاد الى سلسلة من ردود الأفعال كل منها أكثر دموية مما سبقه. ليتحول عراق اليوم الى غنيمة يتهافت عليها الغزاة والمليشيات والدولة الإسلامية.
لكن مصدر التفاؤل الآخر، إضافة لعمق الجغرافية البشرية مقابل ضحالة النخب، قد يكون غريبا بعض الشيء الا ان له علاقة بسايكولوجية عدم اطمئنان النخب المتعاونة مع مشاريع التقسيم. هذه المجموعة من ساسة «العراق الجديد» وحواريهم المتنفذين الذين ينهبون ويسرقون، بسرعة خارقة، ثم ينقلون السرقات الى خارج العراق، ويشترون البيوت وياسسون الشركات هناك، ذلك لأنهم لا يشعرون بالأمان والاستقرار في العراق، بل يدركون، على الرغم من قوات الأمن والشرطة والجيش والموظفين الذين تم شراء ولائهم، والمرجعيات الدينية، وقوات التحالف الدولي بأن بقاءهم مؤقت، مهما تظاهروا بغير ذلك.
ولعل مصدر تفاؤلنا الأعمق هو حبنا للعراق وحلمنا (هل هناك ما هو أقوى من الاحلام؟) ببقائه، موحدا للجميع، وكما يقول الشاعر التونسي أولاد أحمد: «ولو قتلونا/ كما قتلونا/ ولو شردونا/ كما شردونا/ لعدنا غزاة لهذا البلد/ وعاد الى أرضنا الشجر/ وعاد الى ليلنا القمر».