منذ نالت موريتانيا استقلالها بداية ستينيات القرن المنصرم، كان النقاش حادا حول هوية دولة متعددة الأعراق والألسن، فكان على البناة الأوائل أن يجعلوا من الإسلام -الذي يدين به كل الموريتانيين- عامل وحدة وتثبيت للسلطة الجديدة، في مجتمع لم يعرف دولة مركزية موحدة من قبل.
هكذا جاء اسم البلاد "جمهورية إسلامية"، وأُخِذ نشيدها الوطني من قطعة شعرية دينية أنتجها أحد أكبر علماء البلد قبل الاستقلال بعدة عقود، قطعة لم تكتسب مكانتها مما تحمل من وعظ ديني وحض على التمسك بتعاليم الإسلام، بل كذلك من المكانة السياسية والاجتماعية ومن الأدوار الحاسمة التي لعبها كاتبها، بابا ولد الشيخ سيديا في تاريخ المنطقة.
يُستدعى خلو هذا النشيد من إشارات وطنية بقوة هذه الأيام من طرف الأغلبية الحاكمة والداعمين للتعديلات الدستورية، فـ"إعادة كتابة النشيد الوطني التي كانت مطلبا لفئة معتبرة من نخب البلد ومنذ سنوات"، كما يقول أحمد ولد محمدو رئيس تيار الحراك الشبابي من أجل الإصلاحات الدستورية، "تأتي في إطار عملية التحديث التي تعيشها البلاد، وتسعى لبعث روح وطنية باتت ضرورية لخلق وشائج وروابط أكبر بين أبناء هذه الأرض".
ويرى ولد محمدو أن اختيار قطعة ولد الشيخ سيديا مع استقلال البلاد نشيدا وطنيا لا يعدو كونه "حلقة من حلقات الصدف التي أحاطت بالعديد من الأحداث المهمة التي شهدتها لحظة التأسيس، وهذا ما يفسر غياب الحماس والروح الوطنية عن هذا النشيد".
الجدل حول النشيد الذي أذكاه الإعلان عن هيئة مكونة من 39 شاعرا لاختيار نشيد جديد للبلاد، شكل استمرارا للجدل السياسي حول التعديلات الدستورية التي قاطعتها "تنسيقية المعارضة الديمقراطية" واتهمت السلطات بتزويرها.
إلهاء
على الجانب الآخر، يعتبر مسؤول الإعلام في حزب تكتل القوى الديمقراطية المعارض سليمان ولد محمد فال، أن "تغيير النشيد يأتي لإلهاء المواطنين من جديد عن مشاكل الصحة والتعليم والتشغيل التي يعانون منها، ومواصلةً للعبث برموز البلاد ودستورها في ظل أجواء غير توافقية".
ويرى ولد محمد فال أن النشيد والعلم بشكليهما الحاليين يشكلان مرجعية لكل الموريتانيين، وقد "ارتبطوا بهما وجدانيا وروحيا، واستشهد في سبيلهما العديد من أنباء الجيش الموريتاني"؛ ويحذر مما يعتبره استهدافا واضحا لرموز البلد وشخصياته الاجتماعية في خطاب "النظام ومتزلفيه"، صاحَب حملة تغيير النشيد وأذكى النعرات وهدد تماسك النسيج الاجتماعي.
كما يرى ولد محمد فال في مسار التعديلات الدستورية وتغيير النشيد، "سعيا من طرف نظام محمد ولد عبد العزيز إلى طمس هوية البلاد".
ولم يقتصر الجدل الذي أثاره البدء في كتابة نشيد وطني بديل عن قصيدة ولد الشيخ سيديا على الفرقاء السياسيين، بل شكل كذلك موضوع انقسام في المشهد الثقافي والأدبي ترددت أصداؤه بقوة في وسائل التواصل الاجتماعي، وأعاد إلى الواجهة نقاشا لا ينقطع في موريتانيا منذ سنوات عن مقاومة الاستعمار ومهادنته؛ وهو النقاش الذي يحتدم في بعض الأحيان ويختلط أحايين أخرى بالولاءات السياسية والجهوية والقبلية، في خضم الاستقطاب بين المناصرين والمعارضين لتغيير رموز البلاد.
جدل ثقافي أدبي
ويرى الصحفي والمحلل السياسي الهيبة ولد الشيخ سيداتي أن "الإعلان عن تشكيلة الهيئة التي عُهِد إليها بكتابة النشيد الجديد، نقَل الجدل من عالم السياسية إلى ساحة الثقافة والأدب".
ويؤكد ولد الشيخ سيداتي أن هيئة النشيد، وإن ضمت شعراء كبارا، فإن أسماء وازنة في المشهد الشعري والوطني غابت عنها، مثل أحمدُّو ولد عبد القادر، والخليل النحوي، ومحمد الحافظ ولد أحمدُّو.
ويشير ولد الشيخ سيداتي إلى مراعاة التمثيل الجهوي في أعضاء الهيئة، وغياب تام لكل الشعراء الذين عرفت عنهم مواقف سياسية لا تنسجم مع توجهات حكومة الرئيس محمد ولد عبد العزيز.
اعتبارات سياسية يبدو صداها مسموعا منذ اللحظة الأولى. فقد بدأ بعض الشعراء إعادة كتابة النشيد الوطني بطريقة ساخرة من الحكومة وتوجهاتها لتغيير الرموز الوطنية. وإذا كانت الأغلبية ستجد في الكلمات الجديدة للنشيد ضالتها الوطنية، فإن المعارضة لن تطرب أسماعها لما يعزف على الضفة الأخرى من المشهد السياسي الذي بات انقسامه يتجسد أكثر في تمسك كل طرف بعلم ونشيد.
المصدر : الجزيرة