ما يطلب من الثورة.. وبعدها

سبت, 2015-01-10 00:02
توجان فيصل

لا يمكن إنكار إنجاز الثورة التونسية لكل ما هو مطلوب من "الثورة". فقد أنجزت دستورا رائعا (تناولت أهم ما حواه في مقالتي الأخيريتن على الجزيرة نت) يصلح ليكون أنموذجا لبقية دول الربيع العربي بل نجزم بأنه أصبح تحديا لبقية الثورات والثوار.

هذا عن "نص" عقد الحكم الذي أنجزه التونسيون ولم يمكن الطعن فيه سوى القول بأن العبرة في التطبيق.. فجاء التطبيق في صورة انتخابات نيابية ثم رئاسية لم يمكن لأي من الأطراف التي جاءت نتائجهما أن تطعن في نزاهتها بأكثر من التأشير على تجاوزات محدودة من مختلف الأطراف، مما يتوقع أن تجري محاولته في بلد يلج منعطفا تاريخيا لا بد ان تحاول قوى سياسية تسجيل أعلى قدر ممكن من المكاسب، وبعض المحاولات لا تكون مشروعة. لكن حتى لو صحت تلك التأشيرات لما تغيرت نتائج الانتخابات النيابية ولا الرئاسية. والدليل على هذا إقرار الجميع، بدءا بالطرفين اللذين توقعا وتوقع معهم محللون كثر، أن يحصلا على أعلى الأصوات الشعبية: حزب النهضة ومعه كامل تيار الإسلام السياسي الذي اعتبر الأوفر حظا في استشراف مآلات الثورات.. و"الحركة الشعبية لتحقيق أهداف الثورة" التي تشكلت لأغراض خوض هذه الانتخابات من أحد عشر حزبا يساريا وقوميا وبيئيا. فالأول اتكأ على توظيف الدين ومعه التاريخ العربي بعد السلام غير المنقح بما يمس "مثاليته".. والثاني اتكأ على نضالات طويلة قادها اليساريون بحيث أصبح "الاتحاد العام للشغل أهم من اي حزب عامل في تونس، وساندتها قوى نسائية كانت تجد في الفكر اليساري مصدر دعم "تاريخي" لمطالبها بالمساواة. وهؤلاء كانوا في مقدمة قيادة الثورة وكانت التوقعات المحايدة تتجه نحو ترجيح "الحركة الشعبية في تونس تحديدا.. ومع ذلك كانت الجبهة اول من سلّم لإرادة الشعب، وهو موقف مسؤول يؤشر على ان مكونات الجبهة تملك بوصلة سليمة توهلها لقيادة معارضة راشدة.

في ضوء هذا يبدو قول جهة متضررة في نعي الثورة بأنها اختصرت ﻠ"دستور وانتخابات نيابية ورئاسية" عجيبا، بل وديماغوغيا.. فماذا يطلب من الثورة غير هذا؟!

غير هذا مما يطرح بعمومية وهلامية كله يتعلق بتغيير تفاصيل الحال الذي تمت الثورة عليه، في شقيه: محاسبة من اقترفوا جرائم ضد الشعب التونسي لقمعه او نهبه، او لكليهما فكل القمع الجاري في العالم العربي يخدم النهب الجاري بشكل رئيس.. وتحقيق التنمية والتطوير على عكس مسار النظام المخلوع. والهدفان مترابطان، فالمحاسبة تتضمن عقاب المجرمين "الجزائي" كما تتضمن استعادة ما نهبوه من امال، ليتمكن التوانسة من بناء بلدهم وإصلاح ما دمر. ولكن كليهما ليسا مما يمكن مطالبة نواب الشعب والحكومة ورئيس الجمهورية المنتخبين بتقديمه فورا كما حلوى احتفالات الفوز. بل هو مسار يبدأ بالفوز ويمكن قياس إنجازه بتتبع مدد الإجراءات المتخذة ومدى معقوليتها، بدءا بالتحقيقات مرورا بالتوقيفات للمتهمين بالعسف أو الفساد ومطالبات تسليم المتهمين الفارين، و"شروعا في " وليس "وصولا لمحاكمتهم".

وأهم ما يحدد كل هذا هو البينات التي يستحيل زعم غيابها. فأقله سؤال "من اين لك هذا" ليس فقط إرثا إسلاميا أرساه الخليفة عمر بن الخطاب ويبرر به الآن زعم ضرورة "الخلافة" لتطبيقه، بل هو ما يطبق في كافة الديمقراطيات في العالم كله، بدءا بالحكام وانتهاء بأي مواطن تظهر عليه معالم ثراء.. وعدم تمكن هؤلاء (الحكام كما المواطنين) من تقديم مصدر مشروع لثرواتهم أو انفاقهم، يعتبر وحده دليلا يجرّمهم بالفساد، والبحث يجري لمعرفة إن كانت جرائم أخرى اقترفت لتسهيل ذلك الفساد او التغطية عليه.

وفي تونس طرح سؤال مفصلي عن الأرشيف الرئاسي الذي لم يتم تسليمه.. ولكن هنا تحديدا يتوجب تذكّر ان المرزوقي امتنع عن تقديمه فترة رئاسته، وبالتالي هو مساءل كما من كانوا في بقية المناصب قبل الانتخابات الأخيرة، عن ذلك الأرشيف وعن غيره من وثائق الدولة التي لا يجوز زعم إتلافها، فالشهود على ما جرى كثر وبأعداد تفوق ما يلزم كبينة. وحتما لا يخلو الأمر من قيام مواطنين شرفاء بالاحتفاظ بأدلة فساد او عسف ليوم حساب. وفي تونس يمكن الآن إقرار تشريع مستعجل يكافئ من يقدمون الأدله ويعفي من شارك في الفساد خوفا ولم يكن منشئاً له، إن أعاد كل ما حازه وأمكنه تقديم أدلة تدين من أنشأوا ذلك الفساد.. فهذا ايضا إرث إسلامي (يعطى من يرد المال الضائع حصة فيه وتقبل توبة التائب المعترف طوعا) وعرف ديمقراطي قضائي عالمي، حيث يعطى الشهود حصانة من عقاب المشارك، ويعطون ما يسهل لهم حياتهم بعدها بعيدا عن انتقام من ادانوهم.

وهذه مجرد امثله، فوسائل إثبات العسف والفساد الصريحين لسنوات وعقود لا تعجز أحدا!