تستحق صفة «الصبر» رفع القبعة احتراما للمواطنين الأردنيين الذين يُظهرون قدرا كبيرا من المسؤولية حرصًا على البلاد والعباد والدولة، أكثر من عشرات النخب وأصحاب الرأي المراهق، وفي بعض الأحيان أكثر من الحكومة نفسها، وعشرات المسؤولين الذين أغلقوا آذانهم ولا يريدون الإصغاء لمقترحات بديلة أو لآهات الألم.
الأردنيون على المستوى الشعبي إزاء اختبار حساس في غاية الأهمية هذه الأيام الصعبة.. هذا ما تقوله ضمنيا سلسلة من المواقف والتصريحات والإفصاحات المَلِكِية والرسمية للشعب الصابر بعد أن «تخلى الصديق والشقيق» عن مساعدة الأردن.
نفهم الآن ما الذي قصده مخضرم سياسي وطني من وزن الدكتور ممدوح العبادي، عندما قدم قبل أشهر الشكر علنًا للشعب الأردني الصبور الذي تحمل الألم وواجه ارتفاع الأسعار وتكلفة المعيشة بالسهر على الأمن والاستقرار وتجنب الاضطراب بعدما أعلنت الحكومة ارتفاعا طفيفا في النمو الاقتصادي من جراء برنامجها الإصلاحي القاسي سابقًا.
نعم؛ نرفع القبعات احتراما لأخلاقيات وصبر «أيوب الأردني» من مختلف مكوناته.
ونعلم مسبقا أن المواطن الغلبان الفقير الأقل دخلًا سيتحمل الوجبة المقبلة من عبء الضريبة.. ذلك واضح لا لبس فيه، ونأمل أن لا يسمح شعبنا الطيب لأصحاب الأجندات ورموز الإحباط والاحتقان التسلل إلى تلك المنطقة التي تختص بالحرص على مؤسسات الوطن وتحافظ على هيبة القانون وتحيط المؤسسات الوطنية في الدولة كما تحيط الأم طفلها الوحيد.
يبدو أن الظروف أكثر من صعبة، بدليل أن مؤسسة القصر المَلِكِي تدخلت عدة مرات لتصارح الناس بالواقع واعدة بمساعدة الطبقتين الفقيرة والوسطى.
تحدثت المرجعية المَلِكِية مرتين في الموضوع، وكانت تلك إشارة ملموسة مباشرة إلى صعوبة الوضع المالي، وهي بكل حال إشارة لا تترك الحكومة وحيدة في مضمار المواجهة مع الناس، وتحاول مساعدتها بل إنقاذها.
الخطاب المَلِكِي استعرض الظروف الصعبة التي ألمّت بالمنطقة منذ عام 2011، وأعلن عمليا أن الرهان على المساعدات لم يعد قائما وزادت الرواية الأردنية لتعلن أن الرهان أيضا على المجتمع الدولي قد لا يكون قرارا حكيما، فقد قالت المرجعية بوضوح إن العالم متهم اليوم بـ «التقصير مع الأردن».
وسمع الأردنيون وليّ عهدهم الأمير الشاب المبشر بالخير يتحدث على منابر الأمم المتحدة مؤشرا بصراحة إلى الخذلان الذي واجه الأردنيين في مسألة المجتمع الدولي، حين قال: إن التعاطف مع الأردن وتقدير دوره في خدمة الإنسان لا يبني مدارس جديدة ولا يدعم ميزانيات.
الموقف أكثر من واضح ويوجه نداء ضمنيا للأردنيين لإظهار المزيد من الصبر في المرحلة المقبلة.
«أيوب الصابر» وسط الأردنيين لا يزال يتجول بينهم ويظهر قدرا كبيرا من المرونة، ومستعدا للتضحية، إذا ضربت النخب الأردنية مثالًا وسبقته في التقشف وتوقفت تماما تلك المناورات والمبادرات التي تصر على تسويق الدولة الرعوية باعتبارها آلية حكم منصفة وعادلة، وإذا ما توقف الإنكار وضربت السلطة مثالًا حيويًا للناس في الشفافية التي لا تتعلق فقط بمستقبلهم المالي السيئ المقبل، ولكن بمراجعة السياسات التي قادت أصلا إلى مثل هذا المستقبل.
صاحبنا أيوب الأردني صابر ويمكنه الصبر أكثر.
لكنه اليوم يطرح اسئلة مشروعة ويحتاج لإجابات.
ومن الضروري أن تنتبه دوائر المسؤولية في الحكومة لأن احتواء الموجة المقبلة من تداعيات انخفاض الدخل وارتفاع الأسعار وتكلفة المعيشة يحتاج إلى ما هو أكثر من «التذمر» وتوجيه اللوم للمجتمع الدولي، واستعراض الظروف العامة والخيارات التي كانت أقرب إلى مغامرات.
أبلغني مخضرم وطني من وزن الفاضل عون الخصاونة في حديث عميق أن المجتمع الدولي أصلا «كذبة كبيرة» على أساس أن واشنطن فقط هي هذا المجتمع.
العالم «قبيح» ومؤخرا يكشف للأردنيين عن قباحته وينكر دورهم ويتخلى عنهم.
النظام العربي الرسمي أيضا قبيح، ليس فقط لأنه مليء بالصراعات على حساب الأمة، ويؤمن بالفرقة والحصار، ويفتك بعضه ببعض ويتخلى عن الأردنيين كما تخلى سابقًا عن الفلسطينيين والسوريين.
لكن السؤال عن تلك السياسات والرهانات التي حشرت مصالح الأردنيين ورهنت حياتهم وسط هذه البركة من القبح.
مسؤولية مَنْ بصورة محددة في جهاز الحكومة توفير «البديل الفوري» عن الغاز المصري الذي انقطعت إمداداته في وقت مبكر؟
مسؤولية مَنْ وسط نخب وأدوات الحكومة الارتفاع بمستوى الاحتراف حتى نقطف الثمار في مقايضة اللاجئين؟.. لِمَ قدمت الحكومة رهاناتها على مسألة اللاجئين السوريين مجانا بأداء بائس لمن أداروا ظهرهم لأيوب الأردني اليوم؟
ثمة أسئلة كثيرة موجعة في قلب المواطن الأردني الغلبان، وثمة زهو طوال الوقت في إدارة خطأ للمشهد الإقليمي على مستوى المنطقة، وإخفاق في رسم البدائل والسيناريوهات نتج عن وجود مراهقين في الإدارة السياسية وغياب المثقفين والمفكرين وطبقة رجال الدولة الخبراء.
مِن الذي اقترح وضع البيض الأردني الأساسي في سلة إسرائيل ــ في ملفي المياه والطاقة ــ قبل أن يتلمس الجميع الانقلاب الإسرائيلي على الأردن والأردنيين؟.
لِمَ أدارت الحكومة الأردنية طوال الوقت اتصالاتها مع الجميع بغرور الادعاء بأن عمّان وحدها من دون بقية العواصم تستطيع التحدث مع الجميع بالوقت نفسه، فيما تبين الآن أن الجميع لا يريدون مساعدة عمّان اليوم ولا يتفهمون ظروفها؟.
قد لا يكون من الحكمة طرح هذه التساؤلات والتركيز عليها، الآن حسب رأي الكثير من أصحاب الرأي.. نختلف مع هذا الاجتهاد ونؤمن بأن بداية الاستيعاب والهضم بإظهار جرأة الإقرار بحصول أخطاء في: أولًا ملف «الأدوات»، وثانيًا آلية إقرار السياسات.
قد لا يحصل ذلك.
وليس من الحكمة استعجاله ولا يوجد ملاذ أمام أيوب الأردني اليوم إلّا بإظهار المزيد من الصبر والمقاومة الإيجابية والتمسك بحسن النوايا والالتفاف حول المؤسسات وتسليفها مجددا الثقة حتى يغادر الجميع منطقة الأزمة.
وندائي للأردنيين جميعا: التفوا حول بعضكم ومؤسسات الدولة ولا تسمحوا لليأس بالعبور، فالأردن أغلى من الجميع.