عبدالناصر الراحل إلينا

اثنين, 2017-10-02 12:07
عبد الحليم قنديل

عبدالناصر لم يكن أسطورة، بل حقيقة لرجل عظيم الاستثنائية، أعطته مصر من روحها العبقرية المتفردة، وأعطاها من عقله وقلبه وإخلاصه وكفاحه، عاش ومات، انتصر وانهزم وصمد، واستراح في قبره الشهير بكوبرd القبة، لكن سيرته لم تمت أبدا، فقد عبر موته إلينا، وواصل الرحيل فينا، وتجدد إلهامه لمصر وأمتها العربية الحزينة، وهي تحلم بصباح جديد، تحمل شمسه تقاطيع وجه عبد الناصر.
لم يمت عبد الناصر مهزوما ولا منتصرا، بل مات على الجبهة مقاتلا باسلا، ولم يكن أبدا من أبطال القصص المنتهية، الذين عاشوا وماتوا وأنجزوا بين قوسين، وأغلقت على سيرهم أقواس التاريخ، وعدوا من أبطال السياسة أو قادة السلاح، لكن عبد الناصر كان سيرة أخرى تماما، فهو بطل الأقواس المفتوحة، بطل الدراما التي لم تكتمل، عاش وأنجز بأكثر من أي بطل آخر في تاريخنا، لكنه مات دون حلمه، وتركنا بدون أن نحصن أحلامنا، وبات لكل منا، أن يكمل حلم عبد الناصر بطريقته، كان حلمه عفيا، فلم يمت معه، كان شخصه الاستثنائي، قد اندمج بشعبه وأمته، ترك جيشه على الجبهة يحارب، ولم يخذله الجيش الذي أعاد تأسيسه من نقطة العدم بعد هزيمة 1967.
كانت التعبئة جارفة من حول الحلم، كانت مصر كلها على جبهة السلاح، كانت تريد الثأر لهزيمة لحقت وسبقت، وعبرت خطوط النار في حرب أكتوبر، وحققت ما يعلو على معنى المعجزة، وفي غمرة النصر الفريد، كانت مصائر الذل في انتظارنا، وكانت نبوءة الشعب التلقائية تتحقق سريعا، فقد خرجت مصر كما لم تخرج أبدا في وداع رجل، وكما لم تخرج أي أمة في وداع زعماء ولا أنبياء، وصنعت الجنازة الأعظم في مطلق التاريخ الإنساني من قبل ومن بعد، وكان هتاف الناس الوداعي المصدوم لافتا، كان النشيد النشيج يشق القلوب المجروحة صاعدا إلى عنان السماء، كانت أمة بكاملها تنعى حلمها، وتخاطب عبد الناصر الذي لم تتصور أنه سيرحل مبكرا، وتخبره في جزع عن هول مصائر تنتظرها، ويسيل دمعها وهي تغنى، «يا ناصر يا عود الفل / من بعدك هنشوف الذل»، وقد كان، وإن تدحرج الزمن قليلا إلى ما بعد وقف إطلاق النار على جبهة حرب أكتوبر 1973، وخذلان السياسة لانتصار السلاح، وخيانة الحلم الذي تركه عبد الناصر وديعة لدى شعبه وأمته، وتوالى الذل والانحطاط عصورا، إلى أن خرجت مصر من جديد، وكأنها مقبلة لتوها من صفوف جنازة عبد الناصر، ترفع صوره وحدها في ميادين ثورة وغضب كاسح، تلاحقت موجاته من ثورة 25 يناير 2011 إلى ثورة 30 يونيو 2013، لا تخدعها وجوه الثورة المضادة التي سبقت إلى غنائم الحكم والتحكم، وهي نفسها التي خانت نصرا حققه جيش جمال عبد الناصر، وداست حلمه بأقدام الغزاة الأمريكيين والإسرائيليين، وتتصور أنها ملكت الحاضر والمستقبل، ولا يفزعها سوى حلم عبد الناصر المستكن في الصدور، وصور عبد الناصر التي تبدو كرايات حرب لا تنتهي، ترفعها أجيال لم تره، ولم تعشه، بل عاشت أزمان الحملة العاتية ضده، والتكفير بحلمه. تصوروا أنهم ضللوها فأنكرت ضلالهم، واعتصمت بصور عبد الناصر، كأنها التميمة ضد الذل، وكأنها سند الحصانة ضد بؤس الزمن، وكأنها الجبل الذي لا تهزمه ريح، مهما عصفت وزمجرت وأرعدت واستبدت بلون السماء.
وليست القصة في عصمة لا يدعيها أحد لعبد الناصر، فهو لم يكن معصوما ولا نبيا منزلا، بل قيمته الكبرى أنه كان من من طينتنا ومن أشواقنا، بلا رتوش ولا رياء، وبشخص استثنائي اختصر أفضل ما فينا، فلم تندمج روح الأمة في شخص، كما حدث مع عبد الناصر، كان انحيازه قاطعا نهائيا بلا ذرة تردد، انحاز للفقراء والوطنية المصرية والقومية العربية، وصدق فيه قول جمال حمدان عن الناصرية التي هي الوطنية المصرية في أكمل معانيها، وطنية الاستقلال الكامل سياسيا واقتصاديا وثقافيا، وطنية العدالة والانصاف الاجتماعي، وطنية التصنيع الشامل المدني والحربي، وطنية الكفاية في الإنتاج والعدالة في التوزيع، وطنية الأولوية الحاسمة للعلم والبحث والتكنولوجيا، وطنية خلق مجتمع جديد من قلب المجتمع القديم، وطنية العداء لإسرائيل جيلا وراء جيل، وطنية الوحدة العربية لأمة ممزقة مستباحة، وطنية النهوض والتجديد الحضاري، وطنية الانتصار لدين العدالة والمساواة والتوحيد، وطنية التصحيح للنظام الدولي لمصلحة أمم وحضارات الشرق والجنوب، وطنية التحرير المفجر لطاقات أمة وشعب، حبسوه طويلا في قماقم التاريخ، وعزلوه عن أنبل ما فيه وعن روح عصره، واعتادوا التدليس عليه والتحكم باسمه، وسرقة موارده وثرواته وحاضره ومستقبله، وهم أنفسهم الذين يواصلون الحرب ضد عبد الناصر إلى اليوم، وهم لا يحاربون قبرا ولا ميتا، بل يحاربون حلما يراود أجيالا جديدة عفية، رأت بعينها ما فعله المعادون بالخلقة لمعنى جمال عبد الناصر، وشهدت مخازي اليمين الثوري واليمين الديني، وكلهم من الماركة ذاتها ومن البضاعة نفسها، وتشاركوا في سيرة العداء الثأري من حلم عبد الناصر، ووجدا ضالتهم معا في النعي على حكم عبد الناصر، وترديد الدعوى السقيمة ذاتها، وهي أن عبد الناصر لم يكن ديمقراطيا، وأنه كان ديكتاتورا، وبدون أن يلفت أحد إلى معنى الديكتاتورية المدعاة، فقد كان عبد الناصر ديكتاتورا لشعبه لا عليه، ولم يكن محايدا حتى يرضى عنه الكل أو يغفل، بل كان منحازا للشعب العامل وصناع الحياة إلى الحد الأقصى، وكان يشق الطريق إلى الحلم عن معرفة وتجربة، وكانت عبقريته الكبرى في المقدرة على التصحيح الذاتب، ولم يدع أبدا أن نظام دولته كان ديمقراطيا بما يكفي، ولا أنه يوفر القدر المطلوب من حريات السياسة، وكان نقده هو الأعنف لنظامه خاصة بعد هزيمة 1967، فلم يخل مسؤوليته عما جرى، وأعلن سقوط دولة الانتهاكات والتجاوزات، وأعاد بناء الجيش من نقطة الصفر، وصنع لمصر جيشها العصري، وحارب على جبهة السلاح وجبهة المجتمع، وانحاز إلى مغزى مظاهرات الطلاب في 1968، وأعلن أن الشعب يريد التغيير و»أنا معه»، وفي الوثائق السرية لاجتماعات الدوائر العليا، كان انحيازه قاطعا صريحا إلى الديمقراطية والتحول لنظام التعدد الحزبي، وكان نقده جارفا للقبضة الأمنية والترهل البيروقراطي، وكان يؤكد أن التنظيم السياسي الواحد صنع من ورق، كان يخطط لما هو أبعد من نصر على جبهة السلاح، ويحلم بالتقدم إلى إكمال تجربته الثورية مع إزالة آثار العدوان، كانت مصر قد حققت حركة تصنيع غير مسبوقة ولا ملحوقة، وقفزت بمعدلات التنمية الحقيقية إلى أعلى ذروة في تاريخها، وفي تجارب الأمم الناهضة وقتها في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وكان نفوذ ووزن الطبقات العاملة والوسطى يتسع باطراد، وكانت مصر الحية قادرة على تجاوز المحن، وأطلق عبد الناصر سراح أغلب المعتقلين والمسجونين السياسيين، ولم يبق في السجون السياسية يوم رحل ـ مساء 28 سبتمبر 1970 ـ سوى 273 شخصا، كان بينهم عدد لا بأس به من جواسيس العدو الإسرائيلي، فلم تنته تجربة عبد الناصر أبدا مع هزيمة 1967، بل كانت تدخل أرقى مراحل نضجها واكتمالها، وكان عزم عبد الناصر أكيدا على التقدم من الديمقراطية الاجتماعية المتحققة إلى الديمقراطية السياسية المأمولة، وبقوة مجتمع عظيم الحيوية، صنعته الإنجازات والتحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الكبرى، كانت مصر العفية تولد من جديد، وتحول المحنة إلى منحة، وكان عبد الناصر يصوب الأخطاء الكبرى التي وقعت فيها تجربته، وبثقة هائلة من شعبه في القدوة والمثال، وفي لحظة اختمار ونضج الحلم، مات صاحبه، وترك الحلم وديعة لدى شعبه، الذي لم تضلله الدعايات المضادة أبدا عن حقيقة عبد الناصر، فقد شهد بأم عينيه مصارع الذين عاندوا الحلم وداسوه، وظل حلم عبد الناصر هو البوصلة المرشدة لمصر وأمتها العربية، والمسطرة المستقيمة التي يقاس عليها كل انحراف، وهو ما يفسر الحيوية الفائقة الخالدة لاسم جمال عبد الناصر في حياتنا، واشتعال المعارك من حوله، وكأنه مات بالأمس توا، أو كأنه لم يمت بعد، فالذين يكرهونه ينفثون أحقادهم في غل لا تنطفئ ناره، والذين يحبونه يواصلون الحلم، ويكملون سيرة «بطل الأقواس المفتوحة»، ويرسمون في خيالهم ووجدانهم وعقلهم صورة «مصر الجديدة» التي حلم بها عبد الناصر، وكاد يحققها واقعا حيا، لولا أن قدر الموت سبق أقدار الحلم، وإن كان الشعب الذي صنع عبد الناصر، ظل أمينا على الحلم، وأشعل ثورتين عظيمتين، لم تبلغا الغاية إلى الآن، وظلتا على حال «ايزيس» في الأسطورة المصرية القديمة، تجمع أشلاء «أوزوريس»، وتصنع من نثار الحلم القديم حلما جديدا.
نعم، مات عبد الناصر كإنسان قبل قرابة الخمسة عقود، لكن معنى عبد الناصر لا يموت أبدا، ووحي حلمه لا ينقطع، فقد رحلنا من الحلم إلى الظلم بعد نصر 1973، وكانت تلك مفارقة كبرى، أن ننتصر في السلاح ونهزم في التاريخ، لكن المفارقة المذلة صنعت بدورها مفارقة مجيدة، فلم يرحل حلم عبد الناصر عنا، بل رحل إلينا، وسكن أفئدة شعب بغالبه الساحق، وتناسل فينا جيلا فجيل، والحلم الذي يسكن شعبا لا يهزمه الزمن، فالشعوب لا تموت.