ماذا سيحل بنا الآن؟

ثلاثاء, 2017-10-03 13:00
عبير ياسين

أشياء عديدة تثير التساؤلات بالقدر نفسه الذي تثير فيه المخاوف، وإن كان من الصعب تحديد نقطة البداية في مسار المخاوف، لأن الخطوط متعددة ومتشابكة، فمن المؤكد أنه من الصعب بشكل خاص تحديد نهاية المسار، لأن النهاية لم تكتب بعد، وكل التطورات محتملة في واقع يحكمه أحيانا كثيرة منطق اللامنطق أو منطق الغابة، كما جاء في بعض التعليقات على اختفاء كابتن فريق نادى أسوان، حمادة السيد، وسط أخبار عن أسباب أمنية وراء الاختفاء. 
وإن كان ما حدث مع السيد وهو شخص معروف، وله جمهوره ومتابعوه طرح تساؤلات مشروعة عن المنطق الذي يحكم الأحداث، فإن بيان النادي عن تقديمه لمحاكمة «عادلة»، في الوقت نفسه الذي تحدث فيه عن الاختفاء بدون أسباب واضحة، وبدون معرفة سبب القبض عليه والتطورات المحيطة بالحدث، تظل في خانة اللامنطق وإثارة المخاوف، بدلا من بث الطمأنينة لأن البيان لم يعلن «الحقيقة» إما لأنه لا يملكها، أو لا يستطيع الإعلان عنها.
هذا الموقف البسيط الكاشف عن حدود العدالة والاختفاء، الذي قد يصيب أي شخص بشكل مادي أو رمزي عبر التشويه وغيره من الاتهامات الجاهزة، كما حدث مع اللاعب محمد أبو تريكة واتهامه بالإرهاب، يتقاطع مع خبر وفاة المرشد العام الأسبق لجماعة الإخوان محمد مهدي عاكف عن 89 عاما في أحد مستشفيات القاهرة، التي نقل إليها بعد تدهور حالته الصحية في السجن، رغم العديد من المناشدات والالتماسات التي قدمت للإفراج عنه بسبب تدهور حالته الصحية إلى جانب عمره. لا تتوقف القضية في حالة عاكف عند السجن والموت، ولا الشخص، ولكنها تتجاوز هذا إلى حالة شبيهة بمرحلة ما بعد الرئيس الأسبق محمد مرسي، وتصاعد خطاب الكراهية ودعم العنف في مواجهة الآخر المختلف، أيا كان سبب اختلافه، الذي تشكل في مرحلة تالية ليوجه بشكل خاص ضد كل من يعارض أو ينتقد، ولتصبح اتهامات مثل الانتماء للإخوان أو التعاطف معهم كافية ليكون الفرد عدوا للوطن وضمن «أهل الشر». على هامش الموت تصاعد خطاب الكراهية وظهر وجه الانتقام من شخص الميت ومحاكمته بأكثر من أحكام القضاء التي لم تعلن ضده، وبأكثر مما أحيط بنظام الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك ورموزه، رغم كل ما حدث لمصر خلال عقود حكمه. لتتركز الأخبار تاليا عن الحياة الاجتماعية وأجواء الرفاهية التي تحيط بمبارك ومن حوله.
من جانب آخر سارع البعض لمقارنة التعامل مع عاكف والتعامل الأمريكي مع أسامة بن لادن بعد قتله، للتأكيد على تسامح النظام المصري وديمقراطيته، في حين رفع البعض خطابات اصطدمت بدورها مع مشاعر احترام الموت، بما أدى لنقد تلك المقولات بدرجة أكبر من غيرها، لأنها لم تحترم الموت ولم تضع مساحة للأخلاقيات في الخصومة. والغريب في تلك المقاربات أنها من ناحية تعمم فكرة الإرهاب وتعريف الإرهابي، وتتصور أن إقرار سلطة سياسية ما بأن طرفا أو جماعة إرهابية، كاف لتعميم تلك القناعة على الجميع وإكسابها التعاطف والدعم الشعبي اللازم للاتفاق حولها، وهو أمر بعيد عن الحقيقة في مصر كما في غيرها، وإن اكتسب أهميته في حالة مصر بسبب الظروف التي تطورت فيها الأحداث، وجعلت الكثير من القرارات التي صدرت في مرحلة ما بعد مرسي تصنف في خانة التسييس، خاصة أن بعض القرارات التي صدرت بوصفها قطعية، يتم التراجع فيها لاعتبارات سياسية، مثلما حدث مع حماس والعلاقة معها، التي تغيرت من الاتهام بالإرهاب وتهديد أمن مصر، لفتح الأبواب ولقاء كبار المسؤولين وتنظيم مصالحة فلسطينية، تضيف إلى أوراق النظام المصري في صفقه القرن الأمريكية للمنطقة.
في الوقت نفسه، فإن تلك الأصوات عندما تنزلق في مساحة السقوط الإخلاقي تحتج بأن الطرف الآخر يقوم بالمثل، ولا تجد غضاضة في الاعتراف بأن السقوط جزء من الرد على سقوط الآخر، وكأن القضية في النهاية هي القدرة على ممارسة السقوط والوصول إلى القاع وليس الارتقاء والارتفاع عن الآخر - أيا كان- من خلال استخدام أساليب أكثر سلمية وخطاب أكثر إنسانية، ومساحة مطلوبة للأخلاق، التي لا يمكن أن تدافع عنها عندما يدعو السيسي إلى لجنة أخلاق ثم تسقطها في مقابر الذاكرة، عندما يتعلق الأمر بالخصومة السياسية، أو بكل من هو خارج السلطة، وكل من يعارضها أو ينتقد ما يحدث من سياسات ومواقف. اعتبر البعض في التعليقات أن موت عاكف مثل انتصار على الظلم، وهو أمر يمكن تعميقه بالقول إنه مثل مخرج من حالة السجن بدون تصريح السجان. مقاربة لابد أن تحيل إلى تساؤلات فلسفية لا تخص الموت أو قراره، ولا تخص شخص عاكف بالضرورة، وتتسع لكل ما يحيط بالمشهد السياسي والخصومة القائمة والتصعيد في الكراهية.
علاقة تخص السجن والسجان، وتقع في قلب مشهد الموت عندما يقرر في رائعة جوزيه ساراماغو، «انقطاعات الموت»، أن يعلن عن نفسه قبل حضوره، من خلال رسالة بنفسجية اللون تصل قبل أيام محددة من موت الشخص المستهدف. كانت خطوة الرسالة محاولة الموت للتواصل مع ضحاياه، وتأكيد أن لديه وجها إنسانيا يسمح للفرد بالتحضير للموت، ولكن تلك الفكرة نفسها هددت مكانة الموت نفسه في الرواية، لأن الخطأ في الالتزام بنظام المظروف البنفسجي هدد سيطرة الموت على المشهد، وترتب عليه لحظة اختفاء أخرى للموت بدون قرار حقيقي منه. فهل انتصر السجان حقا، أم أرسل في لحظة موته رسالة بنفسجية تخصم من عمر الظلم على الأقل، عبر طرح التساؤلات عما حدث وأسبابه، وعن الشخصيات الأخرى التي مازالت في السجون ويمكن أن تتعرض للشيء نفسه، والأسماء التي كانت في السجون ولم تعامل المعاملة نفسها وخرجت لتؤكد أنها صاحبة مكان ومكانة، سواء حكم عليها القضاء وأوراقه أو لم يحكم.
يظل من المهم إدراك مكانة المظروف البنفسجي في مشهد الموت، كما في مشهد الاختفاء والإهانة والتعذيب، وكما في مشهد منع الصلاة وتقنين صلاة الغائب في المساجد بتصريحات رسمية وصكوك صلاة. هل تمثل لحظة موت عاكف بما أحيط بها من كراهيه ورود أفعال متنوعه فرصة لطرح تساؤلات أكثر عمقاً عن السجن والسجون، لحظة تهديد سطوة القمع، أن يتحول المظروف البنفسجي إلى خطوة في تدشين تراكمات إنسانية ومنطقية في مواجهة الكراهية واللامنطق؟ مجرد سؤال ضمن الأسئلة. يتجاوز من يهاجم المختلف، أيا كان تصنيفه وفقا للخطاب الرسمي، أن هناك فجوة حقيقية بين ما يقوله، وما يشعر به البشر في المحروسة. وأن هناك فجوة قائمة في الكثير من الأحيان بين أحكام القضاء ورؤى السلطة، وأحكام البشر ورؤى الواقع. وإن كان هناك من يتم تقديمه في لحظة موته أو حبسه بوصفه أصل الشرور، فهناك أصل آخر للشرور لدى الناس، قد يتم تكريمه وتقديمه في مكانة متقدمة في مشاهد كثيرة في الحياة، تزيد الفجوة بين ما هو رسمي وما هو حقيقي، وتزيد من إطلاق الخطابات البنفسجية في المشهد، وكل منها يخصم بدرجة أو أخرى من سيطرة القمع على الواقع، وإن كان عبر ثقوب صغيرة لا تظهر واضحة، وهي تعلن عن نفسها في تعليق غاضب أو ساخر أو تساؤلات لا يهتم بها أحد بالضرورة في اللحظة. خط لا يشهد فقط حدوث الشيء، ولكن عدم حدوثه على طريقة اختفاء الموت في رواية ساراماغو. لم يكن حدوث الموت هو المشكلة حتى انقطع عن الظهور، وربما تتعمق مشكلة الظلم عندما تتصاعد خطابات الكراهية التي لا تفيد أحدا وتعمق من مشاعر غضب وتساؤلات منطق مازال من المهم تواجدها من أجل أنسنة المشهد وحتى لا يتحول إلى غابة مثل تلك التي صاحبت غياب الموت وانتشار المافيا وفساد الأخلاق.
في الرواية، وعندما يغيب الموت تحاول الصحف إبراز الحدث بصور مختلفة لجذب القراء، ولكن يظل السؤال الذي استوقفني هو: «ما الذي سيحل بنا الان؟»، والذي يطرح نفسه بقوة في كل لحظه ترتفع فيها مقولات الانتقام والشماتة، وفي كل لحظة تتراجع فيها الإنسانية والكرامة. في كل لحظة يتم الانتصار للقمع باعتباره الوصفة الوحيدة للأمن، وفي كل لحظة تتم التضحية بالوطن من أجل الكراسي والمصالح المؤقتة. تظهر الرواية كيف ينتصر البعض لخطاب «التفاؤل البراغماتي» حيث ينضم عدد متزايد إلى «مد السعادة الجماعية» التي يلتصق بها ظهور «بعض التصريحات المثيرة للقلق» ومنها «من لا يعلق راية الوطن الخالدة على نافذه بيته لا يستحق أن يكون حيا، من لا يرفعون العلم الوطني ظاهرا بوضوح فإنما يفعلون ذلك لأنهم باعوا أنفسهم للموت، إنضم إلى الجميع، كن وطنيا، اشتر راية.. فليسقط أعداء الحياة. ومن حسن حظهم انه لم يعد هناك موت».
هكذا ببساطة يتقاطع خطاب تحيا مصر المكرر وأهل الشر مع المد الجماعي للتفاؤل المقدم بوصفة الوطنية الوحيده المقبولة، وان كان الفارق أن الموت في الرواية قد انقطع فإنه في الواقع يستمر مع صور أخرى للتمييز تجعل الدفاع عن الأرض سبب محتمل للإدانة، وموت المخالف سبب محتمل لمد الكراهية. تفاؤل معلب يتحول إلى جزء من وطنية الشعارات والرايات المرفوعة في الشرفات، حيث يعاد تعريف الوطنية وتتراجع الكثير من الأشياء في الطريق.
يأتي الموت وكأنه رسالة بنفسجية ضد الظلم، أو رسالة خلاص منه، أو تأكيد على مستوى التراجع في الخصومة عندما يكون القاع هو المستهدف من البعض، ولا تعرف هل يفترض أن نعيد تعريف كل الكلمات التي تصف الواقع قبل أن تتحول الرايات إلى علامة وجود ميت في المكان كما في الرواية؟ أم نكتفي بطرح السؤال بعد كل تناقض عن المقبل من تطورات وما سيحل بنا من أزمات؟ ونأمل في أن يقودنا إلى بعض الإجابات والتغييرات المطلوبة لتجنب المزيد من الأزمات.