في الدين والحداثة

أحد, 2015-01-11 23:58
منصف الوهايبي

الدين والحداثة درس ما أحوجنا إليه، في هذا الظرف الدقيق الذي يمرّ به العالم العربي، حيث صار كثير من بني قومنا لا يرى في الحداثة إلاّ افتئاتا على التراث أو خروجا على الأصول والثوابت. والدين والحداثة مفهومان مختلفان، في الظاهر، أو هما متباينان لا جامع بينهما ولا رابط؛ فالدين ظاهرة أنثروبولوجيّة ملازمة للإنسان منذ فجر التاريخ، تشمل المعتقدات والطقوس والشعائر والأخلاق. والمقصود به في السياق الذي نحن به، الأديان السماويّة الثلاثة (اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام) التي تشترك مع أديان أخرى يؤمن أتباعها بإله واحد أو إله مفارق أو منزّه. على أنّ الجامع بين هذه الأديان كلّها وظيفيّ: إضفاء معنى على الوجود أو محاولة احتواء الكون أو امتلاكه أو السيطرة عليه.
وأمّا الحداثة فهي نمط أو تصوّر حضاريّ للوجود، انطلق من الغرب لينتشر في كامل أرجاء المعمورة. وعليه يصحّ قول بعضهم إنّها نمط أو فعل كونيّ شموليّ، وليست مجرّد «تجديد» كما نقول عادة عن «الظواهر» الحديثة المحلّية التي تشيع في مجتمع ما ويتقبّلها بنسبة أو بأخرى.
هذه الحداثة الكونيّة هي «الحداثة الصناعيّة» بحقّ أي تلك التي تجعل البشر «متشابهين» لباسا ومأكلا ومسكنا…وما إلى ذلك من شتّى المنجزات الماديّة التي هي على صلة وشيجة بمنجزات رمزيّة أو معنويّة. ويقرّ أهل الذكر أنّه ما كان لها أن تكون، من دون العقلانيّة والتجريب والاختبار. والحقّ أنّ الحضارات القديمة مثل الحضارة العربيّة الإسلاميّة، لم تخلُ من هذا البعد العقلاني تماما؛ ولكنّ نسبته في حضارة اليوم أغنى وأشدّ أثرا ووقعا، خاصّة أنّ هذه الحداثة القائمة على العقلانيّة، تحمل معها قيما، إنْ لم تكن معدومة بالجملة في الماضي، فإنّ حظها اليوم أوفر. ومثال ذلك قيمة «العدل الاجتماعي» وقيمة الحريّة والمساواة بين البشر؛ بصرف النظر عن أيّ اعتبار دينيّ أو عرْقيّ. ومهما يكن فهذا التلازم بين الماديّ والمعنويّ أو الرمزيّ في مجتمع مثل مجتمعاتنا لا يزال بين شدّ وجذب وأخذ وردّ، بالرغم من إقرار روّاد الإصلاح عندنا، منذ أواخر القرن التاسع عشر وخلال الثلث الأوّل من القرن العشرين؛ بأنّه لا مناص من الأخذ بهذه المنجزات الماديّة.
وإذا كان ثمّة احتراز فمردّه إلى تبنّي القيم الملازمة لها. والمسيحيّة نفسها لم تقبل بحرّية المعتقد والعلمانيّة والمساواة إلاّ حديثا في المجمع الفاتيكاني الثاني. وكذلك الشأن عند اليهود، فقد قاوموا هذه الحرّية، ولكنّهم كانوا «متسامحين» أكثر؛ بسبب من كونهم أقلّية، مع أتباع ديانتهم من الخارجين على مقالات علماء اليهوديّة. ولذلك نجد عندهم اليهوديّة الأرثودوكسيّة المغالية أو المتطرّفة، ونجد اليهوديّة الليبيراليّة على قلّة ذيوعها أو انتشارها. ومن نافل القول أنّهم شأنهم شأن المسيحيّين، تبنّوا هذه القيم في ما بينهم، وليس في مستعمراتهم. أمّا المسلمون فلم يتبنّوا هذه القيم الحديثة على نطاق واسع، أو هي لم تصبح من مفردات حياتهم ومعيشهم، أو أنّ كثيرا من مؤسّساتهم الاجتماعيّة مثل العائلة وغيرها، لا تزال تستمدّ «وجاهتها» أو مسوّغاتها من الدين، ممّا يضفي عليها بداهة ولا يضعها موضع مساءلة، بالرغم من أنّنا ـ إسلاميّا ـ أدرى بأمور دنيانا كما جاء في الحديث؛ فيما الحداثة نزعت الأقنعة عن مثل هذه المسوّغات والمبرّرات. فهي بشريّة نسبيّة تاريخيّة أي هي تتطوّر بتطوّر الأوضاع. ويقول أهل الذكر إنّ للتطوّر «خطّا» لولبيّا بما يعني أن لا إمكان لعودة كلّ دورة من دورات اللولب، إلى نقطة بدايتها، أو أنّ كلّ دورة إنّما هي جديدة مقارنة بسابقتها. وليس بالسهل على الضمير الديني أن يقبل هذا المعطى أو يرضى بمقولة بعض أسلافنا من أنّ العقل كافٍ وحده لتنظيم المجتمع. والحضارة الإسلاميّة كما يقول المفكّر التونسي عبدالمجيد الشرفي ليست في كلّ تجلّياتها حضارة نصّ.
وأمثلة ذلك المدوّنة الفقهيّة، بعضها شديد الخصوصيّة مثل الختان الذي لا يشغل إلاّ مساحة ضيّقة من هذه المدوّنة، على حضوره اللافت في الضمير الديني إذ لا يُتصوّر أن يكون المسلم مسلما دون أن يكون مختونا. وبعضها ممّا هو أمسّ بواقعنا كالديمقراطيّة التي يسوّغها البعض على أنّها الشورى. وهذا لا يعدو أكثر من عمليّة تأويليّة في تقديره، ولا أحد من القدماء ألزم الخليفة باستشارة رعيّته؛ فضلا على أنّ الخلافة مؤسّسة وراثيّة منذ انتصار معاوية ونشأة الدولة الأمويّة. وجعل الشورى بمنزلة الديمقراطيّة ليس أكثر من ترقيع الديني بالدنيوي. وكذلك الزكاة المقرونة أبدا بالصلاة، للحدّ من الفقر والعوز والحاجة، فقد حجّر الإسلام «مؤسّسة الميسر» التي كانت تنهض بوظيفة دينيّة (الاستسقاء) واجتماعيّة (ذبح النوق وإطعام الفقراء)، وأنشأ «مؤسّسة الزكاة». أمّا اليوم فهناك قوانين وضعيّة مثل الضرائب التي هي واجب على المواطن .
إنّ الضمير الديني «الجمعي» يجد من الصعوبة بمكان أن لا يجري شكل تديّنه أو محتواه على وتيرة من شكل تديّن أسلافه أو هو يرضى بغير ذلك. هذا برغم أنّ للتديّن أشكالا تاريخيّة مختلفة إلى حدّ التباين بالجملة. وعليه فإنّ النسج على منوال السلف وهْم كبير. بل لا يوجد منوال أصلا وإنّما نحن ننهج على «تمثّل» لذلك السلف الذي قد يكون اجتهد؛ وكان اجتهاده رَهْنا بظروف مجتمعاته وملابساتها.
كاتب تونسي