من المبكر بعد الحديث عن «ربيع الانفصاليات» عبر العالم. لكنها موجة جديدة تؤشر أيضا إلى سمات اللحظة الكونية الراهنة، تلك الموجة التي تبدأ من كردستان حتى كاتالونيا وتنتاب أيضا لومبارديا والبندقية لتعود فتلهب المطلب الذي لم يستكن رغم خسارته الاستفتاء في سكوتلندا، ولا ننسى النتائج المتقدمة التي حققها القوميون الاستقلاليون في كورسيكا. ولئن كان للنزعة الانفصالية في الشرق الأوكراني ترتيب آخر، متصل بالقضم الروسي عمليا لهذه المناطق، الا انّه لا يدري أحد متى تكون محركا للنزعات الانفصالية ومتى تفسخ هذه النزعات جدران بيتك الداخلي.
هي موجة جديدة إذا من الحراك الانفصالي، الذي راج في السنوات التالية لتفكك كل من الاتحاد السوفياتي وانفجار الوحدة اليوغوسلافية. انطباع أساسي حيال الموجة الحالية: لم يجر استيعاب دروس الموجة الماضية قبل ربع قرن. لا دروس الانفجار اليوغوسلافي، ولا دروس الطلاق الحبي بين تشيكيا وسلوفاكيا.
بخلاف الاتحاد السوفياتي، المبني على مشروع تدوير الرابطة القيصرية التراتبية بين الأقوام والشعوب إلى وطنية ذات طابع أممي، انما متمحورة حول «الروس الكبار»، كانت يوغوسلافيا بحد ذاتها مشروعا قوميا، نقض بقومية «اكثر قومية» منه.
الفكرة اليوغوسلافية، بخلاف الرابطة السوفياتية، استندت إلى مبالغة في تقدير أثر القومية الارادوية. انبنت في الاساس على مشروع الوحدة العرقية الاقليمية لسلافيي البلقان. نقضت بالقومية الدينية بين صرب وكروات. لم تتمكن لا الرابطة العرقية للجامعة السلافية الجنوبية، ولا وحدة اللغة، ولا مشترك المسيحية، ولا اشتراكية تيتو المخففة وقصص التسيير الذاتي، من معالجة الأحقاد القومية المذهبية بينهما كارثوذكس وكاثوليك. أحقاد ظل يغذيها، سواء في مملكة او في جمهورية، شعور متبادل بأن قوما يكيدون للآخر، مع ارث ثقيل من المجازر المتبادلة في فترة الحرب العالمية الثانية، لكن خصوصا مجازر كتائب «الاوستاشي» الكرواتية الفاشية ضد الصرب.
في الحالة اليوغوسلافية، لم يكن الاشكال محصورا إذا بين قوميات تريد الافتراق عن بعضها البعض، ولا تعرف كيف، خصوصا في المساحات المتداخلة فيما بينها. الجانب الآخر، المهمل من الصورة، ان مشروعا قوميا متعدد الاثنيات، لكنه يبقى قوميا، لا بل مستند إلى سردية حول العرق السلافي، والفرع الجنوبي من هذا العرق بالذات، هو الذي عزم على الوقوف حجرة عثرة دون القوميات الاثنية البحت، التي حدودها الاثنية هي حدودها الدينية المذهبية. وكانت النتيجة في النهاية ان اعتبر هذا المشروع الجامع مجرد اداة في يد الهيمنة الصربية.
الحالة التشيكوسلوفاكية مختلفة، ليس فقط في نهاياتها. من البداية مختلفة. ظهرت تشيكوسلوفاكيا بعد انفراط عقد الامبراطورية النمساوية المجرية لآل هابسبورغ، بهزيمتها في الحرب الكبرى. لكن، في تشيكوسلوفاكيا الاولى هذه، كان التشيك والسلوفاك على بعضهم البعض لا يشكلون الا بالكاد ثلث السكان، في مقابل ثلثهم من الالمان، بما في ذلك براغ، واكثرية المانية ساحقة في السوديت، ظلت ترفض الاعتراف بالكيان وتطالب بالانضمام إلى المانيا، إلى ان كان هذا من مداخل الحرب العالمية الثانية. هذا بالاضافة إلى اقليات كبيرة من اليهود الناطقين إلى حد كبير بالالمانية، ومن الاوكران والمجريين. فقط حين اختلفت الحال بعد الحرب العالمية الثانية، بطرد الالمان من السوديت، وسلخ القسم الشرقي من سلوفاكيا، روتانيا الكرباتية، لالحاقه باوكرانيا السوفياتية، اختلفت الحال.
لم يعد هناك تقريبا الا التشيك والسلوفاك. ولم يعد من داع للانكماش على بعضهم البعض ضد آخر اثني يجمع بينهما. وهكذا صار يشعر السلوفاك بوطأة التشيك اكثر، و»راعت» الوطأة السوفياتية هذا، بأن خصصت حزبا شيوعيا قطاعيا لكل من هاتين القوميتين. في هذه الحالة سهل الطلاق الحبي في النهاية، لأنه لم يكن من الاساس هناك سردية قومية متعددة الاثنيات مأخوذة من النخب على محمل الجد، كما في الحالة اليوغوسلافية. وبالتأكيد، الانضمام لكل من التشيك والسلوفاك للمشروع الاوروبي كان عاملا مساعدا على الانفصال المخملي هذا.
المسألة ليست إذا موقف من الفكرة القومية ككل. لا مهرب من الافكار القومية لبناء الدول الحديثة. لا مهرب ايضا من المعطيات الاثنية في عملية بلورة الافكار القومية. المشاريع القومية يمكن ان تكون متعددة الاثنيات، او احادية الاثنية، ويمكن ان تكون هذا او ذاك جهارا او ضمنيا، ويمكن ان تكون التعددية والموزاييكية فيها غطاء لتقعيد هيمنة قوم فيها على قوم، او هكذا يمكن ان يتطور او يلتهب الشعور. في الحالة اليوغوسلافية، مثل المشروع القومي المتعدد الاثنيات، انما المبني على نظرية العرق السلافي، وعلى وحدة اللغة بين الصرب والكروات، نموذجا لمشروع يؤدي طموحه الزائد إلى نتائج كارثية عندما تنكشف هشاشة الرابط المعاش. في الحالة التشيكوسلوفاكية، غياب هكذا طموح زائد سهل المسائل كثيرا.
الموجة الراهنة من الحراك الانفصالي مختلفة. يصعب استشراف طلاقات حبية فيها. يصعب اكثر تخيل عودة الحرب الاهلية الاسبانية. هنا الاحتكاك سيأخذ وقتا اطول. المآلات يصعب توقعها. رهان المركز على الوقت من جهة، وعلى مزيج من العناد وفتح باب توسيع الاستقلاليات الذاتية ضمن وحدة الدولة في نهاية التحليل من جهة اخرى. رهان الطرف الذي يريد الانفصال هي على المثابرة قبل كل شيء، مع انقسام ضمني داخل كل مشروع انفصالي حالما يطرح التفاوض على توسيع مدارك الاستقلال الذاتي. الحالة الكردستانية – العراقية، على انتسابها إلى الموجة الحالية تأخذ بعدا مختلفا. لانقسام كردستان بين اربع دول. ثلاثة منها ظلت ترفض الفدرالية ولم تزل، ورابع، العراق، قبل حتى في ظل البعث، الحكم الذاتي لاقليم كردستان، منذ مطلع السبعينيات، وهو ما لم يحصل لا في إيران ولا في تركيا او سوريا، ثم قال دستوره بالفدرالية بعد سقوط صدام، ومع ذلك انتهج المركز، بعثيا سنيا كان او شيعيا على نهج حزب الدعوة، سياسة ناقمة بشكل مرضي على كل نزوع تحرري كردي. اتخذ هذا شكل مجازر ابادية وقت صدام، ويتخذ شكل دورة تأليب مكونين على ثالث، في مرحلة حزب الدعوة، مرة الشيعة والكرد على العرب السنة، ومرة فئتي العرب على الاكراد. العراق ليس يوغوسلافيا ولا هو تشيكوسلوفاكيا. عجز عن بلورة كيانية وطنية تقر بالتعددية الاثنية بارتياح، مرة اذ اضاف اليها الايديولوجيا الاولترا قومية العربية، ومرة اذ استبدل هذه بالتغلبية المذهبية الشيعية. الطلاق الحبي فيه مستبعد. حرب جديدة ضد الحراك الاستقلالي الكردي مسألة معقدة. انما احتمال الاصطدام في كركوك والمناطق التي توسع اليها البشمركة ايام داعش واردة للغاية.
يبقى ان الموجة الحالية، هي كردستانية قدر ما هي كاتالونية، رغم الاختلاف الهيكلي بين الحالتين. فحالة كردستان ليست فقط انفصال عن، بل لا يمكن ان يسقط منها حساب الانضمام الى.. مشروع كردستان الموحدة. اما كاتالونيا، فهي انفصال عن اسبانيا بالمفرد، من اجل اسبانيات بالجمع، كما كان يستخدم المصطلح بالجمع إلى قرون خلت.
هل ثمة مجال هنا للقول بعراقات؟ قديما قيل عراق العرب، وعراق العجم. هل يمكن استحداث القول بالعراقين العربي والكردي؟ الابتكار دائما مطروح عندما يتعلق الامر بهندسة الكيانات الوطنية. المشكلة تكون عند تصور الاجتهاد في هذا الامر مقفل تماما. المشكلة حين يكون الاقفال الذهني في المركز اكثر غلاظة من الاقفال الذهني في الطرف الراغب بالابتعاد.
نقلا عن القدس العربي