بعد أخذ ورد حول العلم الجديد والنشيد وغيره من التعديلات الدستورية المثيرة للجدل، وصراع سياسي لم يخلو من التجاذب الحاد أحيانا، خصوصا بين أنصار النظام القائم وأنصار المعارضة الراديكالية، المنتدى والتكتل وغيره، استطاع القائمون على الأمر العمومي تمرير كل تلك التعديلات، ولو شكليا، لكن الجدل لم يحسم.
فقطاع عريض من أهل موريتانيا، ممتعض من إضافة اللون الأحمر للعلم الوطني، وقطاع أقل ممتعض من تغيير النشيد، ومجموعة أخرى ممتعضة من إلغاء مجلس الشيوخ في جو غير توافقي.
ولا يدرى هل إن تمت وقتها العملية الإنتخابية بشفافية، بالنسبة لهذا المستوى المثير بحق، هل ستجاز حينها التعديلات المقترحة أم لا، والأرجح عندي لا، طبعا.
بصراحة المسألة الوطنية ذات الطابع العام مقدسة، ولا ينبغي مهما تحكم زيد أو عمرو أن يتم فيها تغيير بهذا الحجم دون ترتيبات مريحة، لائقة بآراء وإقتراحات جميع مكونات المسرح السياسي، أما تعسف الأمور، فهو لا يعني أقل من استغلال فترة نفوذ باختصار، وقد قيل قدما ،لو دامت لغيرك ما وصلت إليك.
إن للسلطة الحق في اقتراح تغييرات، ولو دستورية، لكن بشرط أن تكون وجيهة وتوافقية، هذه أقل الشروط بإيجاز.
وهي شروط كانت مفقودة بالتمام والكمال على رأي الكثيرين، في الإستفتاء المجاز، منذ أكثر من شهرين، وذلك يوم الخامس أغسطس2017، بنسبة فاقت المتوقع على رأي البعض.
شخصيا أفضل أن أنظر إلى العلم بوجهه المعروف، الأخضر بالكامل، دون هذه الإضافة الحمراء، أما وقد قهرنا وفرضت علينا فرضا، فالأفضل عدم التصعيد
فالعنف قد يضر أكثر من الصبر على إجازة تغيير العلم والنشيد وإلغاء غرفة مجلس الشيوخ.
نعم قد يضر العنف ببقاء الوطن ذاته، ورهان المرحلة القادمة، رهان بقاء الوطن، وهذا ما لا يريد الكثيرون قبوله واستيعابه.
"اصنادره روصهم امتان".
فاحذروا من تكرار الدرس المصري أو السوري أو اليمني أو الليبي أو غيره.
فالربيع العربي كان مهما في جانب الخلاص من طاغية تونس، وتغير الأحوال نسبيا و سلميا في المغرب، أما ما سوى ذلك، فلم يكن مدروسا ولا محل تسيير متوازن حذر.
الخطورة ليست في تغيير العلم، ولا النشيد ولا إلغاء مجلس الشيوخ ربما، الخطورة في الصدام الفعلي بين شعب واحد، في أرضية، عرقيا واجتماعيا متنوعة إلى حد المفزع المثير بحق وامتياز.
حالتنا تتطلب تنازلات مؤلمة، ولو ضمنيا، ولو عبرنا بقوة عن رفض ما لا نراه، لكن بسلمية وحنكة وحكمة تامة، بعيدا عن القلاقل والعنف والصدام وقمع الاحتجاجات السلمية والانقلابات الممزقة العقيمة، على كل الوجوه والاحتمالات.
دوامة الانقلابات جربناها عندنا بوجه خاص.
لا خير فيها، فهي إنما تنقل الدولة من انقلاب في أحسن الأحوال إلى مرحلة انتقالية سيزيفية فحسب.
المتوقع أخطر ويتطلب نظرة وطنية ثاقبة جادة صارمة محسوبة بدقة.
فإذا كان ولد عبد العزيز وفريق حكمه على أحد الاحتمالات، يفضلونه مصالحهم الضيقة على مصالح الوطن.
فالحزم الحذر من المنزلق بكامل الحزم والحذر، فالأمور اقتربت ربما من حافة الخطر الأعظم بصراحة.
كل المؤشرات ودون ريب تدل على أن القائمين على السلطة يوما ما، ربما من سنة 2019 أو قبل ذلك، سيقدمون اقتراحا بإلغاء قفل العهدتين الرئاسيتين، لتفتح المأموريات بصورة عبثية، على خلاف ما كان قائما دستوريا، من منع تجاوز الرئيس عهدتين ،لا أكثر.
لكن الأخطر أن محصلة الصدام المرتقب، مخيفة إلى حد بعيد على مستقبل الوطن المنظور.
والأمر يتطلب التأمل والبحث ورصد خطة مصاحبة، أساسها الوطنية والتقارب والحوار، من أجل محاولة تفادي الأفق القادم القاتم، لا قدر الله.
فسكوت المعارضة الراديكالية غير متوقع وغير أخلاقي، بحكم موقعها، وتصرفها بأسلوب غير سلمي وغير مدروس، غير حذر بكامل الكلمة، وربما خطير على بقاء البلد، مجرد بقاء اسم موريتانيا على خارطة هذا العالم.
وقمع السلطة المتغلبة للمحتجين بصورة غير حذرة ،قد يجر البلد إلى نفق مظلم مجهول المآلات،، لا قدر الله.
و الأمر برمته بكل الاحتمالات في أغلبها مقرف مؤلم، ومخيف في حساب كل وطني حاذق فطن، سواء كان رئيسا أو مرؤوسا.
وكما يقال في المثل الحساني، أن فتاتين تلاحتا تفاخرا غير عنيف.
فقالت إحداهن بالحسانية : "بويه يكطعه ويركعه"، فردت عليها الأخرى بصورة ذكية : " بوي يرعاه سابك تلحكو".
أي يراعي الخطر ويعد اللازم قبل الدخول في مرحلة التأزم.
أما إن تغلبت السلطة كما هو متوقع راجح، وفرضت العبث مرة أخرى بالدستور، بحجة ما ،مثل عدم تأهل الفريق المدني الراهن على وجه العموم، لفرض الاستقرار وإظهار نموذج حكم مقبول متماسك.
أقول إن تغلبت السلطة بإلغاء القفل الدستوري، والعبث به مرة أخرى في جو غير توافقي طبعا، فإن كرامة موريتانيا والموريتانيين قد تكون على رأي البعض، مست وأصيبت في الصميم.
وربما يكون باطن الأرض عند بعضنا خير من ظاهرها، وأخاف أن يكون الزمان المرتقب ،إن لم نعد العدة اللازمة للتكيف معه، زمان وجو يخافه الصالحون والحكماء، حيث أنهم يستطيعون توقع الأمور بدقة أحيانا، دون صعوبة كبيرة.
وهذا يفرض على الرئيس محمد ولد عبد العزيز وجماعته ،مهما كانت ميولهم أو مصالحهم أو مبرراتهم، فتح مجال الحوار وتدشين حديبية موريتانيا بالجلوس التلقائي لمائدة البحث دون شروط ثقيلة، عسى أن يحد ذلك من حواجز الجفاء والتباغض المجاني غير المبرر، ويفتح المجال ولو بمستوى ما، لرسم خارطة طريق عبور آمن، ولو نسبيا.
فكثرة البلاء ولو نجحت التنمية ماديا ،لا يستقيم معه الرخاء والاطمئنان، حيث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكر أنه في زمان ما، يتمنى البعض محل صاحبه في القبر ليس بسبب قلة المال، وإنما لكثرة البلاء.
والأحوال المرتقبة في الفترة القادمة مهما كان تغيير الدستور أو بوائق اصنادره ونظامهم، أقولها بصراحة كل هذا أخطر منه التقاتل والفتن العمياء المدلهمة، ولكن ذلك لا يمنع من التعبير السلمي الصارم عن رفض كل ما يستحق الرفض، مع إلزام السلطة بالحق الدستوري في منح وحماية الاحتجاج السلمي والعمل باستمرار على دراسة سبل التفاهم والتقارب والتعايش السلمي الإيجابي، رغم الاختلاف والتنوع في الرأي والرؤية والوجهة.
الأفق القادم في موريتانيا أفق الإبقاء على حد ولو أدنى من وجود موريتانيا على الخارطة، ورهان الدول الفاشلة مثل دولتنا بصراحة، رهان على البقاء والاستقرار النسبي، ولو كان هشا أحيانا ،وما أمكن من التنمية وليس الديمقراطية في أعلى صورها ،وإن توفرت من مستوى ما، حرية التعبير والصحافة هنا وهناك، مع نواقص جمة، ماليا ومهنيا وسياسيا، كما هو الحال من حيث تعويق السمعي والبصري وإغلاق جميع المنافذ ،من إعلانات واشتراكات ،على صحافتنا المستقلة على وجه العموم، وبأوامر رسمية من الوزارة الأولى، وذلك عبر المفتشية العامة للدولة، التي منعت على الصحافة والمساجد وغيرها ،الكثير من العون، وسحبت تلك المليارات للمجهول ،مع الإبقاء على مبلغ رمزي "200 مليون أوقية" فحسب ،لآلاف المشتغلين في الحقل الإعلامي الحر، وهو مبلغ جزافي عبثي طبعا، لا يسمن ولا يغني من جوع، ولم يوزع بعدالة منذ أن استهل مشروعه المتعثر الناقص القاصر ،للأسف البالغ،
وعود على بدء أقول، ليترك لـ"اصنادره" إن شاءوا فرض المقزز، لكن دون أن نقبل الدخول معهم في معترك دموي فتنوي، لا يدرى أخطر، أوله من آخره، وليبقى المعنيون متمسكون بالرفض السلمي بحكمة وحنكة ،كما قلت آنفا.
والسعيد من أتعظ بغيره، فلتنظروا ما لحق بأغلب إخواننا العرب، في سياق ظاهرة الربيع العربي المثير.
التغيير المطلوب نحو الأفضل، وليس نحو الأعنف والأخطر والأمر "من المرارة".