البقية في حياتكم

خميس, 2015-01-15 23:55
 د. ابتهال الخطيب

الحاكم يظل حاكماً أياً كان وفي أي زمان، ما أن يعتلي السلطة حتى تسقط المبادئ وتبرر الغايات الوسائل ويصبح العنف وسيلة والتخويف ضرورة وتحوير وتدوير المعلومة وتشكيلها بما يناسب المصلحة ذكاء ولعبا سياسيا. لربما الفرق يكمن في أنه وفي حين أن الحاكم الشرقي يصب جام وسائله على شعبه، يستخدم الحاكم الغربي هذه الوسائل في تشكيل وتفعيل سياساته الخارجية، يتعامل بها مع من لا يهمه من الدول الأخرى وشعوبها، أما في الداخل، فهو أولاً يخشى ويخاف صوت الناس المرتفع، وهو ثانياً قد تعلم، بعد قرون من الجهل والبطش والخسائر، أن مصلحة شعبه من مصلحته، وأن حريتهم وأمنهم ينفعانه ويقويان من شأنه. الا أن هذا وذاك يشتركان إلى اليوم في وسيلة واحدة مستخدمة ضد الشعوب الا وهي تدليس الكلمة وتحوير المعلومة واستخدام الإعلام لرسم الصورة التي تريدها الأنظمة وحكوماتها. 
لا أدل على ذلك من الصورة القميئة للمظاهرة الصامتة التي قام بها عدد من الحكام والرؤساء ضد الإرهاب في باريس الاثنين الماضي، مظاهرة ضد الإرهاب يتقدمها نتنياهو؟ حقاً؟ هذا الرجل الذي مات على يديه الآلاف من الفلسطينيين، والعشرات ان لم يكن المئات من الصحافيين من العرب والأجانب، هذه الرجل الذي يقود دولة قائمة على أقدم وأقذع منهجية عنصرية على الأرض، هذا الرجل الذي يتوسع في استيطانه كل يوم مقتلعاً بشرا متجذرين في أراضيهم زارعاً محلهم نبتا ساما جديدا، هذا الإنسان الذي هدم البيوت على رؤوس العجزة وقتل الأطفال على الحدود ودهس الناشطين الإنسانيين تحت جنازير الدبابات وأسس لأكبر مقابر جماعية لمجتمعات بأكلمها اختفت هي بناسها وبيوتها من على سطح الأرض (أو على الأقل هو الوريث لكل هذا الارث الدموي) هذا الرجل يتقدم مظاهرة ضد الإرهاب؟ 
نعلم جميعاً أن الاعلام الغربي قد رسم صورة مختلفة للقضية الفلسطينية ولجزاري اسرائيل المتعاقبين، نعلم أن شعوبهم لربما تبتلع هذه الصورة لجهلها بما يحدث، لعنصرياتها المتجذرة القديمة المثبتة كل يوم بغسيل إعلامي قوي، لخوفها الشديد من كل ما هو عربي ومسلم وربطه بالعنف والرجعية والتخلف وهي الصورة التي ساهمنا نحن في رسمها لآخر ضربة لون، لكن هل يمكن للشعوب العربية أن تبتلع هذه الصورة؟ واذا لم يكن ممكناً، خصوصاً أن السكين الاسرائيلية لا تزال مغروسة في الخاصرة، وهي تستدير توغلاً كل يوم حتى انهرس منا العظم واختلط باللحم المهترئ وما عاد فينا نفس من الألم والخزي وعذاب الضمير، اذا لم يكن ممكناً ابتلاع هذه الصورة وهذه السكين تنز دماً سافحاً، كيف إذن وقف بعض الحكام العرب، وممثل القضية بحد ذاته، في الصف ذاته مع نتنياهو في مسيرة «ضد الإرهاب»؟ هلا يفهمنا أحد هذه الخطوة الإعلامية؟ نتحد من أجل المبدأ، نعم، نضع الخلافات جانباً من أجل السلام وإيقاف الإرهاب، بالتأكيد، نتكاتف من أجل محاربة العنف، بلا شك، لكن نتشابك الأيدي مع نتنياهو؟ بالكاد نحن نبتلع تكاتف الأيدي مع حكام أوروبا ضد الإرهاب وهم الذين ساهموا بسياساتهم المزوقة في صنع المشهد الإرهابي الفظيع الحالي، في خلق وتمويل الشبكات الإرهابية الدينية، في ضرب الشعوب العربية من الداخل بطرق واضحة وأخرى كانت خفية وما عادت، بالكاد نتقبل حديث هؤلاء عن العنف والدماء وكلهم يغضون البصر عن جرائم إسرائيل وهي تنحسر عن ساقيها الملوثتين بالدماء وكأنهم «يعصمون أنفسهم» من الوقوع في خطيئة «كشف الحقيقة»، فهل كتب علينا الآن أن نبتلع تكاتف أيدي هؤلاء بنتنياهو بحكامنا العرب برئيس السلطة الفلسطيـــنية بحد ذاته؟ أي ذل كتب علينا يا رب؟
لا أزال، عطفاً على المقال الماضي، أؤكد أن الإرهاب صنيعة داخلية، وأن التربة عندنا كانت صالحة للفساد، وأن الغرب ما اخترق الحقل الا عندما وجد أصحابه وقد حرثوه وسقوه على مدى قرون من الزمان، ثم تركوه دون أن ينظروا في أمر تغير الزمان والطقس، دون أن تواكب بذرتهم تغير الأحوال والأفكار، وجاء التدخل الخارجي ليزيد طين التربة بلة، وكان الحصاد علقم. الا أن هذه الخطيئة الداخلية لا تبيح لحكامنا أن ينكأوا الجراح ويستغفلوا الغافلين عن كل شيء الا ألمهم فيشاركوا في الصورة المزيفة المريضة التي لربما يبتلعها الإنسان الغربي ولكنها تقف حجراً في بلعوم أي عربي لا يزال قادراً على الإحساس. حقاً؟ في صف واحد مع نتياهو؟ في مظاهرة ضد الإرهاب؟ يقتل القتيل ويمشي في جنازته وتأتون أنتم لتقدموا واجب العزاء؟