عندما وضع الغرب قيَمه على الرف

ثلاثاء, 2017-12-26 09:17
توفيق رباحي

في تسعينيات القرن الماضي تدفق على دول أوروبا، وبالخصوص بريطانيا، آلاف اللاجئين الأجانب، أغلبيتهم الساحقة مسلمون، ونسبة معتبرة منهم جزائريون. كانت ردود فعل الجزائر والدول التي هرب منها أولئك اللاجئون تصل إلى حد اتهام لندن بإيواء إرهابيين وهاربين من العدالة في بلدانهم، فخرج إلى الاستعمال اللغوي مصطلح “لندنستان”.

ورغم الضغوط الشديدة وحملات التشهير في وسائل الإعلام، والاتهامات سرا وعلنا، رفضت بريطانيا ودول عدّة تسليم أي من المطلوبين لبلدانهم لسبب بديهي هو غياب ضمانات المحاكمة العادلة لهم.

كانت الحكومات الغربية آنذاك تولي اهتماما خاصا لحقوق الأفراد والجماعات، ويعنيها حال المضطهدين واللاجئين. وكانت أيضا تستمع لجماعات الضغط من منظمات غير حكومية وجمعيات أهلية، وإلى سياسيين محليين تُرفَع لهم شكاوى عن أحوال الناس وعن مخاطر محتملة محدقة بهم.

مع الأسف، ذلك زمن ولّى إلى غير رجعة، على ما يبدو. لو أن أولئك اللاجئين وُجدوا اليوم، لرُحِّلوا في قوافل جماعية إلى مصيرهم المشؤوم دون دمعة واحدة تُذرَف عليهم.

العالم اليوم شيء آخر غير الذي كان آنذاك: السفيرة السويسرية في الجزائر راسلت حكومتها تحذر من تبعات إصرار القضاء السويسري على متابعة اللواء المتقاعد خالد نزار المتهم بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق، مايكل فلين، لم يجد ضيرا في بحث اختطاف المعارض التركي، فتح الله غولن، وتسفيره إلى أنقرة. الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وقف أمام نظيره المصري، عبد الفتاح السيسي، ليعلن بلا تردد أن فرنسا لن تعطي مصر دروسا في حقوق الإنسان. وزير الدفاع البريطاني السابق، مايكل فالون، وقف أمام أعضاء مجلس العموم، الشهر قبل الماضي، معترضا بصوت عال على انتقاد العديد منهم للسعودية.

وراء تحذير السفيرة السويسرية بالجزائر طموح وطمع لانتزاع بعض الصفقات التجارية والاقتصادية. ووراء تهور فلين 15 مليون دولا نقداً وعده بها الأتراك فأسالت لعابه. وسبب موقف ماكرون المتخاذل تجاه مصر صفقات اقتصادية وعقود سلاح (مقاتلات “رافال” التي لا تجد من يشتريها). ووراء تحذير فالون مبيعات سلاح تجاوزت الأربعة مليارات جنيه أسترليني منذ بدء الحرب السعودية على اليمن، وصفقة مجزية لتزويد السعودية بمقاتلات “تايفون”.

هذه الحالات المحدودة تشكل نماذج لأخرى كثيرة تدل أن العلاقات الدولية باتت تسير بالمقلوب، وتؤكد أن العامل الاقتصادي والمصلحة المادية أطاحت بالمُثل والقيم الجميلة. لقد أصبحت الحكومات الغربية، الديمقراطية والحريصة على قيم ومبادئ حقوق الإنسان، أضعف من أن تعاند حكومة ديكتاتورية في قضية إنسانية وحقوقية. وهكذا أصبحت الدول الظالمة، حتى الفقيرة منها، أكثر وثوقا في نفسها بدلا من أن تخشى على وضعها وسمعتها، وتحاسَب على أفعالها.

هناك عدة عوامل أسفرت عن هذه الصورة المقلوبة، بعضها “عندنا” وبعضها “عندهم”.

من “عندنا” هناك آفة الإرهاب، كحقيقة أولاً، ثم كحق يراد به باطل. فقوانين مكافحة الإرهاب أضحت أسمى من غيرها من لوائح ومقررات. ولم تتردد الحكومات المصدِّرة للاجئين والإرهابيين في استغلال هذا البعبع والاستثمار في ذعر المجتمعات الغربية لابتزاز حكوماتها تحت حجج من نوع “تحتاجون لنا ونستطيع أن نساعد”. أصبح لكل دولة غربية قانونها لمكافحة الإرهاب على حساب الحقوق والحريات والقيَم، الفرق درجات فقط، أما المبدأ فواحد. وانقلب شعار “بريء إلى أن تثبت إدانته” إلى “مذنب إلى أن تثبت براءته”. لم يعد سجن رجل بريء لمجرد الشبهة يستوقف أحداً، بينما كان قبل 20 سنة يقيم الدنيا ولا يقعدها.

من “عندهم” هناك، إلى جانب الخوف من الإرهاب، الوضع الاقتصادي والمالي الصعب والذي يدفع الحكومات إلى البحث عن صفقات تجارية وأسواق حيثما وكيفما كان، وعلى حساب المُثل والقيَم. هذا البحث قاد بالضرورة إلى منافسة شرسة، سرية ومعلنة، بين الحكومات الغربية على الصفقات والأسواق. فالصفقة التي قد تتعفف عليها أمريكا بداعي الحقوق والحريات، لا تجد أوروبا أو الصين ضررا في أخذها، والعكس صحيح. ولم تقتصر المنافسة على القارات والفضاءات، بل انتشرت حتى داخل المعسكر الواحد، فلا غرابة أن تتنافس بريطانيا وفرنسا بشراسة على صفقة سلاح مع مصر، أو إيطاليا وألمانيا على نفط الجزائر أو على عقد تسويق مع تونس.. إلخ.

هناك أيضا تراجع دور المنظمات غير الحكومية والجماعات الأهلية، متأثرة بالوضع السلبي عموما من حولها. وقد رافق ذلك تراجع تمويلها، ما أدى إلى تقلص تأثيرها.

كما لا يجب تناسي صعود اليمين الشعبوي في البلدان الغربية وسعيه للتأثير على الحكومات في شكل لا يخدم القيَم السمحة التي قامت عليها هذه الدول، في مقابل اجتهاد الحكومات لإرضائه تحقيقا لمآرب انتخابية أو حسابات سياسية داخلية. وقد ترتب عن ذلك أن الكلام عن نفاق الغرب وكيله بمكيالين لم يعد يزعج الحكومات الغربية أو يثنيها عمّا تريد فعله، أو التصرف وفق المصلحة أولا وأخيرا، فيذهب ماكرون إلى مالي ويلقنهم دروسا في حقوق الانسان، لأنهم فقراء ليس لديهم أموال تسيل لعاب الشركات الفرنسية، أما الدول الأفضل حالا والغنية فـ”ليس لديه دروس يقدمها لها” لأنها ملهوفة على صفقات سلاح وعقود تجارية تحرك دورة الاقتصاد الفرنسي وتنقذ آلاف الوظائف في فرنسا.

ورغم كل ذلك، الحقيقة تحتم القول إن هذه الدول، على علاتها وعيوبها ونفاقها، أرحم لكثير من الناس من أوطانهم.

نقلا عن القد س العربي