ثمة نيل تجاوز مصر إلى آخر أفق عربي. حمل إلى تطوان وبغداد وعكا حكايات مصر، وأهازيج الصعيد، وظلم العمدة، وشعر أحمد رامي، وقصائد شوقي، وروايات نجيب محفوظ، وتراحيل يحيى حقي. هذا النيل العابر للأمة كان صوت أم كلثوم، وموسيقى محمد عبد الوهاب، وصورة فاتن حمامة.. وكثيرين آخرين.
حملت السينما المصرية إلى العرب روايات التاريخ وروايات المآسي وفرح الضحك وآلام الحب في عصر رومانسي لم يجسده أحد مثل مصر، في الغناء والشجن والطرب و... «ليه يا بنفسج بتبهج وانتَ زهر حزين». بدأت فاتن تصدُّر الشاشة في دور طفلة، ثم في دور فتاة عاشقة، ثم في دور زوجة، ثم أما، ثم جدة. نصف قرن من العرش. نصف قرن من الإبداع.
كنا نذهب إلى دور السينما صغارا للبكاء مع بكاء فاتن. نعرف أن ما نشاهده «سينما» لكن صوت فاتن الحزين يطبق على أحداقنا حتى يجففها. وإذ نخرج من السينما، نكون قد تملكنا فرح خفي، لأن فاتن، في نحولها وضعفها ومسكنتها، قد انتصرت على الشر وهزمت البلطجية ورفعت قضايا الفلاحين والأيتام إلى ضابط القسم والخاتمة السعيدة.
عندما كنت أكتب عنها، بما يليق بها من مشاعر وعفوية، كان أحمد بهاء الدين يضحك ويقول ضاحكا: «يعني قدّ كده؟». وكنت أجيبه «أيوه، قدّ كده». وذات مساء في لندن قال «خلاص. امشي معاي بقى تتعرف عَ فاتن». التقيناها في نهاية حفل عربي في «ألبرت هول». وشاء القدر أنني قبل سنوات وصلت القاهرة فرأيت زياد بهاء الدين في ردهة الفندق، فقال لي «نمشي لبيتنا فورا. أصدقاء العائلة عندنا». وكانوا بطرس غالي، ومصطفى الفقي، وأرملة محمد سيد أحمد، وسفير ألمانيا وزوجته المصرية العريقة، و«سيدتي الجميلة».
كانت تلك آخر مرة ألتقيها، أيضا في منزل بهاء الدين، وبعد سنوات على غيابه، ومنذ تلك الزيارة، لم أعد إلى مصر، أنا الذي كان يكرر أن على كل صحافي عربي أن يزور مصر مرة في العام على الأقل، لكي يجدد حاسة الشغف بالصحافة والفنون وحكايات المصريين.
ملأت فاتن حمامة شبابنا في العالم العربي. صورها على الملصقات في كل مكان، وأحاديثها في المجلات والصحف، وزواجها من عمر الشريف يهز الوسط الفني، وطلاقه منها يملأ قلوبنا غصة منه، لأنها كانت سبب عالميته، فلما صار نجما كبيرا، حزم حقيبة ابن البلد ومضى إلى هوليوود ينافس رجال الوسامة والشعبيات التي لا تصدق.
ثم تعودنا القصة. إنها تحدث دائما في السينما. ومضت فاتن تعيش حياتها بأنفة وطيبة. وبعد غياب قسري في لندن وباريس عادت إلى حضن مصر، متعالية فوق جروح الهزائم الوطنية والشخصية وغدرات الزمان. لم تكن سيدة الشاشة فقط، كانت أيضا «الست» الأخرى.