رسالة إسلام أباد ـ إنما الأيام دول

خميس, 2015-01-22 23:50
د. عبد الحميد صيام

بعد أكثر من ثلاث عشرة سنة أعود إلى إسلام أباد. تغيرت الدنيا كثيرا.. تبدل كثير من المظاهر والوجوه والهموم. والانطباع الأول الذي تلتقطه منذ وصول المطار أن الحس الأمني في المدينة أصبح طاغيا أينما ذهبت وحيثما حللت. «ضبط المخدرات مع المسافرين جريمة قد تؤدي بصاحبها إلى حكم الإعدام»، أعلن صوت من طاقم الطائرة قبل الهبوط. رسالة تدل على شيء من القلق، خاصة أن الإنتاج الفائض من الأفيون لدى الجار المشاكس خلف نحو مليون مدمن هنا. الحواجز ونقاط التفتيش منتشرة في كل مكان. سيارات الأمم المتحدة لم تعد تتفاخر بالحرفين الكبيرين على السيارات البيضاء. فمن أجل السلامة والتخفي استبدلا بسيارات عادية وبيافطة صغيرة من الخلف فقط تشير إلى الوكالة المتخصصة، كاليونسيف مثلا لا إلى الأمم المتحدة نفسها. انتقلت البعثات الدبلوماسية ومقرات الأمم المتحدة والسفارات في غالبيتها إلى الحي الدبلوماسي المنيع لسهولة الحماية بعد أن تعرض كثير من المكاتب والسفارات للهجمات في الثلاث عشرة سنة الأخيرة. ذاك فندق الماريوت أعيد ترميمه تماما بعد أكبر عملية إرهابية تعرض لها في 20 سبتمبر 2008 وأدت إلى مقتل أكثر من 54 شخصا وجرح أكثر من 260، عندما صدمته شاحنة يقودها انتحاري. كنا نعقد فيه مؤتمرا صحافيا يوميا حول الحرب الدائرة في أفغانستان ونستقبل كبار الرسميين الأمميين ونعقد اللقاءات مع المحطات الفضائية التي كانت منتشرة على سطوحه، ونتناول فيه ليليا طعام العشاء. إنه الآن أقرب إلى الثكنة العسكرية التي يطل الجنود فيها من وراء أكيـــاس الرمل، منه إلى الفندق العصري الفاتح ذراعيه لاستقبال الزوار. 
إسلام أباد توشحت بثوب من الأسى والوجع والخوف، بعد كل ما جرى من مصائب الطبيعة كزلزال 2005 وفيضانات 2010 الكارثية، إلى حرب استعادة وادي سوات من المتطرفين إلى مئات التفجيرات الانتحارية التي لم تترك مكانا ينجو منها حتى المسجد الأحمر، الذي تعرض لهجوم انتحاري بتاريخ 7 يوليو 2008، قتل فيه عشرة من رجال الشرطة، في احتفال أنصار التطرف بمناسبة الذكرى السنوية الأولى لمداهمة الجيش للمسجد الذي أصبح معقلا للمتطرفين، وقتل في المداهمة أكثر من 100 شخص. المدينة المفتوحة التي صممت لتكون عاصمة للبلاد تغيرت وأصبحت منقبضة على نفسها ترتفع فيها الأسوار والأسلاك الشائكة والحواجز ونقاط التفتيش ورجالات الأمن. العلة هنا، كما يقول جميع من تحدثت معهم، في الإرهاب الذي «دخل بيوتنا ومدارسنا ومساجدنا وقلوبنا».

السجين والسجان

في المرة الماضية جئت لمساعدة مكتب إعلام الأمم المتحدة للتعامل مع الحرب الدائرة في أفغانستان. كان رئيس الوزراء آنذاك الجنرال برويز مشرف قد قام بانقلابه العسكري ضد الرئيس المنتخب نواز شريف في أكتوبر 1999 وأودعه السجن. ومن غرائب الصدف أن أصل هذه المرة في رحلة عمل لعدة أيام ويكون رئيس الوزراء هو نواز شريف، الذي وصل إلى الحكم مرة ثالثة بالانتخابات الحرة في 4 يوليو 2013. أما برويز مشرف فيخضع لنوع من الإقامة الجبرية ويحاكم الآن بتهمة الخيانة العظمى، التي تصل عقوبتها إلى الإعدام على ما اقترفت يداه من مؤامرات وفساد واغتيالات أيام انقلابه الأسود الذي حول بلاده إلى محمية أمريكية لتنفيذ حربها على الإرهاب، حيث أصبح أحد الأذناب المفضلين لدى الرئيس جورج بوش، الذي استقبله عدة مرات في البيت الأبيض استقبال الأبطال، وفرشت له السجادة الحمراء في جلسة خاصة مشتركة لمجلسي الشيوخ الأمريكي، رغم علمهم بأنه وصل السلطة عن طريق الانقلاب. قد تعطي هذه المفارقة درسا لكل الانقلابيين الواثقين في دعم الولايات المتحدة وتذكرهم بأن الأيام دول وإن «من سره زمن ساءته أزمان».
بلاد تملك
كل مقومات الدولة العظمى

قد يكون لدى العرب أو بعضهم صورة نمطية سلبية عن باكستان أسسوها بناء على مشاهدة بعض المستخدمين في دول الخليج، يقبلون بأدنى الوظائف ويعاملون بخشونة ويقبلون بالتي هي أدنى للمحافظة على رزق عيالهم. لكن الحقيقة غير ذلك تماما، فباكستان دولة تملك كل مقومات النهضة الــشاملة، من أرض واسعة خصبة جعلت منها دولة مكتفية غذائيا من سنين طويلة. ويقترب عدد سكانها من المئتي مليون ونسبة التعليم مرتفعة، وفيها أكثر من 134 جامعة، وأطباؤها منتشرون في العالم كله.. بلاد صناعية وزراعية تحويلية وهي الدولة الأولى في العالم الإسلامي التي استطاعت تطوير قدرات نووية ولم تنضم إلى معاهدة حظر الانتشار النووي. 
وتحتل الموقع 26 في سلم الاقتصاد العالمي، وهي عضو في منظمة العشرين وفي مجموعة الإحدى عشرة دولة ذات الاقتصاد الواعد. وفي باكستان تبدأ سلسلة جبال الهملايا وتمتلك من المناظر الطبيعية ما يخلب الألباب، خاصة في مناطق الشمال الغربي ووادي كشمير. فيها أعراق وقوميات عديدة لم تعرف منذ إنشائها عام 1947 أي نوع من الاضطهاد العرقي أو الديني، إلا بعد موجات التطرف في الثلاثين سنة الماضية، خاصة بعد تدفق نحو سبعة ملايين لاجئ أفغاني إلى أراضيها بعد احتلال الاتحاد السوفييتي لأفغانستان وإنشاء حركة الجهاد التي باركها الرئيس الأمريكي ريغان على أرضها. ومن بين الجماعات العرقية التي ما زلت أعلل النفس بزيارتها يوما ما في أقصى الشمال جماعة الكلاش التي يقال إنها تعود لأيام الإسكندر المقدوني، التي حافظت على لغتها مشافهة لأكثر من 5000 سنة إلى أن وضع لها أبجدية في العقد الأخير بفضل علماء يونانيين ونمساويين، لكن السياحة في باكستان تكاد تكون معدومة بسبب التحذيرات الأمنية والتفجيرات، بعد أن شهدت نهضة في سبعينات القرن الماضي وصنفت على أنها من بين أهم 25 دولة سياحية في العالم. الآن جواز السفر الباكستاني ثالث أسوأ جواز سفر في العالم متساويا مع الصومال ومتقدما فقط على العراق وأفغانستان.

مصائب الطبيعة لا تكفي

لكن مشاكل باكستان أكبر من أن تحصر في رزمة أو رزمتين، حيث تكالبت عليها عوامل الطبيعة ومشاكل دول الجيران وحكم العسكر، فترك دولة غارقــــة في المصــائب حتى أذنيـــها. ففي نحو خمسة أعـــوام فقط تعرضت باكستان لأكبر هزة أرضـــية مدمــرة عام 2005 في منطقة جامو وكشمير والحدود الشمالية خلفت وراءها أكثر من 80 ألف قتيل، وهجرت نحو ثلاثة ملايين ونصف المليون. 
وما كادت البلاد تتعافي من آثاره حتى وقعت ضحية فيضانات لم تشهد البلاد مثيلا لها في التاريخ، حيث أثرت على نحو 20 مليون إنسان وقتلت أكثر من 2000 شخص وتركت أضرارا أكثر مما ترك تسونامي عام 2004 الذي أصاب عشرين بلدا. 
لكن المشكلة الأعوص التي تواجه البلاد الآن هي الإرهاب، كما قال أحد المشاركين في الورشة الإعلامية التي تنظمها اليونسيف، وهو من مدينة بيشاور، عندما سألته عن أهم التحديات التي تواجهها باكستان. «إن أكثر ما يقلق الباكستانيين الآن قضية الإرهاب، خاصة بعد ما حدث في مدرسة بيشاور يوم 16 ديسمبر الماضي». وأضاف محدثي «أقسم بأن ابنتي وهي في الصف التاسع وفي مدرسة أخرى من مدارس بيشاور لم تنم طوال أسبوع وطلبت منا أن نعفيها من الذهاب إلى المدرسة». نعم هزت العملية الكيان الداخلي لكل باكستاني ولم يعد يثق بشيء وهو يرى مجموعة مسلحة تقتحم أسوار مدرسة أطفال ابتدائية وتعدم رميا بالرصاص 137 طفلا بدم بارد. لقد هزت هذه الجريمة كل الشعب الباكستاني، مثلما فعلت جريمة محاولة اغتيال ملالا يوسف زي في أكتوبر 2012. كلا الجريمتين وحدتا البلاد ضد الإرهاب المنفلت من أي ضابط ديني أو خلقي أو إنساني أو قانوني. «قبل تحديات التنمية والصحة والمناخ لا مناص من هزيمة الإرهاب أولا وفي كل المنطقة. فلا معنى أن يهزم الإرهاب هنا ويستفحل في أفغانستان، وقد شاهدنا أثر تشتت طالبان أفغانستان عام 2001 كم جر علينا من ويلات، حيث تناسخت المجموعات وأصدرت طبعاتها المحلية في أكثرمن مكان» علق محدثي قائلا. 
لقد تجاوزت هذه المجموعات بإجرامها كل حدود المنطق والمتوقع في أي تصنيف لفظاعة الجرائم التي يرتكبها المتطرفون المنتشرون في ما يسمونه «الحزام القبلي» على الحدود مع أفغانستان ومنطقة وادي سوات. لقد احتلت طالبان- باكستان منطقة وادي سوات لأكثر من سنتين، وبدأت تطبق فيها ما تدعي أنه الشريعة الاسلامية التي لا تعني إلا جلد الناس وإغلاق مدارس الفتيات وقطع الرؤوس والأيدي، إلى أن قام الجيش باستعادتها في يوليو 2009 في عملية عسكرية استغرقت ثلاثة أشهر، لكن خطرهم لم ينته بعد، فقد أعلنت مؤخرا مجموعة متطرفة تسمي نفسها «الأمر بالمعروف» ولاءها لتنظيم الدولة الإسلامية «داعش» وكأن البلاد «لا يكفيها ما فيها» فبدأت بعض المجموعات تخلق طبعات محلية من دواعش العراق وبلاد الشام.

تشابك السياسة بالتنمية

منذ إنشاء باكستان وهي تبحث عن فترة هدوء للتنمية المستدامة فلم تجدها مرة لأسباب خارجية ومرات لأسباب داخلية. لقد حاول فعلا القائد الوطني التاريخي المنتخب بإرادة شعبه ذو الفقارعلي بوتو (1970-1977) أن يرشد مسيرة البلاد بعد انفصال بنغلاديش وبدأ مشاريعه الطموحة، بما فيها مشروع السلاح النووي، فقام العسكر بقيادة ضياء الحق بانقلاب مشبوه من ألفه إلى يائه وانتهى الانقلابيون إلى وضع حبل المشنقة في عنقة عام 1979. وانتخب الشعب مرتين ابنته بنظير بوتو ودبر العسكر انقلابا عليها عام 1996 واتهموها بالفساد وسجنت في بيتها في لاهور ثم بقيت 9 سنوات في المنفى، وعندما عادت عام 2007 وترشحت لمنصب رئيس الوزراء تم اغتيالها في وضح النهار يوم 27 ديسمبر 2007. 
مشاكل باكستان مع الهند مزمنة كالداء الذي لا شفاء منه، تحاول أن تتعايش معه بعد اليأس من التعافي، خاصة أن هناك تاريخا مريرا يشير إلى أربع حروب، من بينها حرب انفصال بنغلاديش 1971، والاحتفاظ بإقليم كشمير رغما عن إرادة شعبها، علما بأن هناك قرارا أمميا يدعو لإجراء استفتاء لتقرير المصير، عطلت تنفيذه الهند منذ عام 1948 وحتى الآن. وكلما تحسنت العلاقات بين البلدين يحدث شيء ما «وبطريقة مشبوهة» لتعكيرها من جديد كما حدث في تفجيرات بومباي عام 2008 التي حملت الهند مسؤوليتها لباكستان صراحة، علما بأن جماعة «عسكر طيبة» الإرهابية تبنت سلسة التفجيرات تلك.
وجع الرأس الأكبر التي تعاني منه باكستان هو القادم من جارها الآخر أفغانستان حيث ما زال هناك أكثر من مليونين ونصف المليون لاجئ لم يعودوا بعد إلى بلادهم. أضف إلى ذلك ما تصدره الجارة المشاكسة من فائض الأفيون والإرهابيين لتكتمل الصورة التي تعيشها البلاد، خاصة عاصمتها التي كانت تتفاخر بجمالها وشوارعها العريضة المشجرة وحدائقها ونوافيرها وإطلالة جبال مري من فوقها كالشيخ الوقور – حيث لم يبق من تلك الصورة الواعدة إلا ذكريات حملتها معي قبل 13 سنة أو يزيد.