ساركوزي.. بين نعيم القذافي وجحيمه

اثنين, 2018-03-26 23:41

في ديسمبر/كانون الأول 2007 كان الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي (2007-2012) منتشيا بزيارة "ملك ملوك أفريقيا" الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي لباريس، وبضخامة عوائدها الاقتصادية، وما تحققه من علاقة خاصة بين الرجلين. رحل القذافي وسقط نظامه، لكن توابع تلك العلاقة الملتبسة والمتحولة بين الرجلين لا تزال تطارد ساركوزي، وقد تقوده إلى السجن.

كانت تلك الزيارة بالنسبة ساركوزي خطوة لفتح خزائن الزعيم وتوقيع عقود بعشرات مليارات الدولارات، شملت صفقات تعاون في المجال النووي وشراء طائرات إيرباص وصفقات أخرى في مجال السلاح، واستثمار شركة "توتال" في حقل غاز ضخم اكتشف غربي ليبيا، وفق ما ذكرته صحيفة لوموند الفرنسية.

بعد طول عداء تأسست "الحقبة الجميلة" بين باريس ونظام معمر القذافي، وظهرت علاقات شخصية بين الرجلين، بنيت على شبكة واسعة من المصالح ما بين سري وعلني، منها جاءت الاتهامات لساركوزي بتلقي هدايا من القذافي ومبالغ مالية لتمويل حملته الانتخابية عامي 2006 و2007 بلغت نحو خمسين مليون يورو.

وفي آخر تطورات القضية، أكد المترجم الشخصي للرئيس الراحل معمر القذافي مفتاح ميسوري الجمعة في حديث لإذاعة فرنسا الدولية (آر أف إي) أنه كان شاهدا على قضية التمويل هذه، مشيرا إلى أنه التقى ساركوزي عام 2005 عندما زار طرابلس وكان آنذاك وزيرا للداخلية في حكومة جاك شيراك، وأن اتفاق التمويل بدأ نهاية عام 2006 عندما أخبر ساركوزي القذافي أنه ينوي الترشح للرئاسة، وهو ما أيّده وباركه العقيد الراحل، على حد قوله.

وقال ميسوري إنه رأى وثيقة الاتفاق -التي اعتبرها ساركوزي مزورة- على مكتب القذافي، كما أن الدليل (إيصال من الطرف الفرنسي) محفوظ لدى كبير المحاسبين في عهد القذافي الموجود في سجن مدينة الزاوية.

 

العداء بعد الودّ
ومنذ أبريل/نيسان 2013 بدأت التحقيقات بشأن الاتهامات بتمويل القذافي تلك الحملة، ومنذ ذلك الحين بدأت تتكشف تباعا تفاصيل عديدة رغم غياب الكثير من الشهود، وقد تحفظت الشرطة الفرنسية مؤخرا على ساركوزي للتحقيق معه بشأن تلك المزاعم، ومُنع من السفر إلى ليبيا وتونس وجنوب أفريقيا.

وبنيت التحقيقات على شهادة رجل الأعمال اللبناني الأصل زياد تقي الدين، واعترافه بلعب دور الوسيط بين نظام القذافي وساركوزي وحزبه الجمهوري آنذاك، وأنه نقل بين عامي 2006 و2007 ثلاث حقائب بها خمسة ملايين يورو من طرابلس إلى كلود غيون رئيس ديوان الرئاسة (ووزير داخلية ساركوزي لاحقا)، ثم ساركوزي نفسه في ذلك الوقت.

نفى ساركوزي في التحقيقات الاتهامات الموجهة إليه، متعهدا بسحق من سماهم "عصابة القذافي القتلة"، لكن تقي الدين أكد مجددا لموقع "فرنس أنفو" أنه التقى ساركوزي في شقته بمبنى وزارة الداخلية عندما كان وزيرا، قائلا إنه سلّمه حقيبة فوضعها جانبا، ولم يرغب في عدّ الأموال. كما أكد أنه التقاه مرة في ليبيا، ومرة أخرى بحضور كلود غيون، وأن هناك شهود عيان حضروا اللقاءين.

وتشير الصحافة الفرنسية والعالمية إلى أن انقلاب القذافي على الصفقات التي كان أبرمها مع ساركوزي خلال زيارته لباريس أدت إلى الإصرار على إسقاطه، وهو ما أشار إليه رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق سيلفيو برلسكوني الذي كانت لبلاده علاقات اقتصادية كبيرة في ليبيا، كما نشرت صحف أميركية وإيطالية معلومات نفتها باريس عن دور فرنسي في مقتل القذافي لاحقا (عام 2011).

وفي تقرير نشرته صحيفة "كوريرا دالا سيرا" الإيطالية (يوم 29 سبتمبر/أيلول 2012)، ورد أن باريس نفذت عملية اغتيال القذافي عن طريق عميل فرنسي كان يرافق الثوار، ونقلت على لسان مسؤولين أوروبيين في طرابلس آنذاك أن ساركوزي "كان لديه كل الأسباب لإسكات القذافي".

وقتل العقيد الليبي الراحل معمر القذافي قرب مدينة سرت يوم 20 أكتوبر/تشرين الأول 2011، ونقلت صحيفة ديلي ميل البريطانية عن مسؤول التنسيق مع الاستخبارات الأجنبية السابق رامي العبيدي أن الاستخبارات الفرنسية كان لها دور محوري ومباشر في مقتل القذافي بعد اعتراض مكالمة هاتفية له.

وفي كتابهما "مع مجاملات الزعيم.. التاريخ السري لساركوزي والقذافي"، يقول الكاتبان فابريس أرفي وكارل لاسكي عن اغتيال القذافي، نقلا عن أحد كبار المسؤولين في المجلس الوطني الانتقالي الليبي، إن أعضاء في القوات الخاصة الفرنسية هم من "أعدموا القذافي مباشرة بعد اعتقاله من قبل المتمردين".

وفي أكثر من مرة، أكد ساركوزي عدم صحة المزاعم والتقارير الصحفية التي أشارت إلى دور فرنسي في عملية قتل القذافي، نافيا في الوقت نفسه تلقي أي دعم لحملته من النظام الليبي السابق قبل رئاسته أو أثناءها.

 

رجال وألغاز
ومسألة العلاقة المميزة بين القذافي وساركوزي كانت مثار انتقادات في الصحف الفرنسية منذ سنة 2007، لكن سقوط نظام القذافي منحها بعدا قضائيا وجنائيا، خصوصا بعد طلب سيف الإسلام القذافيمن ساركوزي (عام 2011) إعادة أموال أخذها من والده.

كما أكدت وثيقة وقعها رئيس جهاز الاستخبارات الليبي الأسبق موسى كوسا الموافقة على منح مبلغ 50 مليون يورو (نحو 60 مليون دولار حاليا) إلى حملة ساركوزي، وفتحت الباب لتحقيقات قضائية فرنسية، وتوجيه الاتهام إلى كلود غيون.

التحقيقات خلصت إلى أنه خلال عام 2008 حصل غيون على 4.8 ملايين يورو من الصندوق الليبي زعم أنه حصل عليها نظير بيع لوحات، لكن الوثائق التي وجدت بمحل إقامة رجل الأعمال الفرنسي من أصل جزائري ألكسندر جوهري بمدينة جنيف أثبتت -وفق صحيفة "ميديابارت" الإلكترونية الفرنسية- تحويله تلك الأموال إلى كلود غيون.

صحيفة "ميديابارت" أشارت أيضا إلى أن جوهري -الذي أوقفه جهاز الشرطة الدولية (إنتربول) الشهر الماضي في لندن- تجمعه علاقات وطيدة مع مسؤولين ليبيين من نظام القذافي، وهو صديق شخصي لبشير صالح الذي حصل على إقامة في فرنسا عام 2011 في ظرف 48 ساعة رغم أنه مطلوب من الإنتربول، ثم اختفى من باريس بعد اكتشاف وجوده هناك ليظهر بجنوب أفريقيا. وقد تعرض الشهر الماضي لمحاولة اغتيال غامضة في مطار جوهانسبورغ.

ووفقا للصحيفة، فإن بشير صالح مدير مكتب القذافي، الذي سلم نفسه لثوار طرابلس في أغسطس/آب 2011 وانتقل بشكل غامض إلى فرنسا، هو "الصندوق الأسود" لأسرار أيام القذافي خصوصا المالية منها، وهو صاحب مفاتيح كل الألغاز في قضية تمويل حملة ساركوزي عام 2007 أو مصير أموال القذافي.

صحيفة لوموند أشارت من جهتها إلى أن مدير المخابرات العسكرية الليبية السابق عبد الله السنوسي أكد خلال استجواب أمام المدعي العام للمجلس الوطني الانتقالي الليبي عام 2012 صحة كلام تقي الدين بشأن تحويل أموال إلى ساركوزي.

كما أكدت "ميديابارت" أن مسؤولين ليبيين في نظام القذافي أقروا في مذكراتهم أو خلال استجوابهم بدفع أموال ليبية لحملة ساركوزي، وبينهم رئيس الوزراء الليبي الأسبق شكري غانم (3003-2006) الذي نقل أيضا عن بشير صالح أنه دفع 1.5 مليون يورو لساركوزي، في حين دفع سيف الإسلام ثلاثة ملايين يورو وعبد الله السنوسي مليوني يورو.

وكان شكري غانم -وهو أيضا وزير النفط والاقتصاد الليبي السابق- قد قتل في ظروف غامضة في فيينا، وأشارت صحيفة لوموند الفرنسية (عدد 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2016) إلى أن الملاحظات التي وجدت مدونة في مفكرته تتضمن تفاصيل دفعات مالية بقيمة ملايين يورو دفعت عام 2007 لحملة المرشح ساركوزي، وأشارت الصحيفة إلى أن غانم كان مهندس صفقات كثيرة "تحت الطاولة" لنظام القذافي.

وتحمل القضية التي حوّلت حياة ساركوزي إلى  ما وصفه هو بـ"الجحيم"، تفاصيل أخرى كثيرة ربما تجعلها -إذا ثبتت الأدلة- إحدى كبرى قضايا الفساد السياسي في تاريخ فرنسا، لكنها ستكون أيضا قضية دولية كبرى في علاقتها بتحولات دولية وحقبة مهمة من نظام القذافي وسقوطه.

 

المصدر : الصحافة الفرنسية, الصحافة الإيطالية, الجزيرة