في المقابلة التي أجرتها معه صحيفة «واشنطن بوست» ونشرتها قبل خمسة أيام، وهو أمر نوّهت به «القدس العربي» قبل يومين، ردّ وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان بطريقة ملفتة للنظر حقاً على سؤال حول نشر المملكة للتزمّت الديني. فلنسترجع ما جاء في المقال الذي لخّصت به المقابلة معاونة رئاسة التحرير، الصحافية المعروفة كارِن دي يونغ:
«عندما سُئل عن التمويل السعودي لنشر الوهّابية، العقيدة المتزمّتة التي تسود في المملكة والتي يتهمها بعض الناس بأنها أحد مصادر الإرهاب العالمي، قال محمد [كذا] أن توظيف الأموال في المساجد والمدارس القرآنية عبر العالم كان يجد أساسه في الحرب الباردة، في الزمن الذي كان فيه الحلفاء يطلبون من العربية السعودية أن تستخدم مواردها للحؤول دون تقدم نفوذ الاتحاد السوفييتي في البلدان المسلمة».
إنها لحقيقة جليّة، لكن أن يتفوّه بها وليّ عهد سعودي فأمرٌ غير معتاد. والحال أن المملكة السعودية كانت قد أصبحت منذ خمسينيات القرن المنصرم قاعدة الارتكاز بامتياز للحرب الأيديولوجية التي خاضتها واشنطن في مناطق الانتشار الإسلامي ضد كافة التيارات اليسارية، من شيوعية وقومية عربية وسواها، المناهضة لما كانت تجمع هذه التيارات على تسميته «الإمبريالية الأمريكية». وقد بلغ التعاون بين المملكة والأجهزة الأمريكية المشرفة على خوض «الحرب الباردة» في بُعديها الأيديولوجي والسياسي ذروة أولى في الستينيات. كان ذلك إزاء تجذّر حكم جمال عبد الناصر في مصر واعتناقه «الاشتراكية»، الأمر الذي ترافق مع تكثيف وتوثيق علاقاته بموسكو. فباتت المملكة تحتضن شتى التيارات السلفية والأصولية الإسلامية من كافة أمصار العالم. وكان أبرز التيارات التي احتضنتها الرياض في ذلك الوقت جماعة الإخوان المسلمين، التي شكّل الحكم الناصري عدوّاً لدوداً لها وللحكام السعوديين على حد سواء.
هذا وقد بلغ التعاون بين واشنطن والرياض في «الحرب الباردة» ذروة ثانية في دعمهما المشترك للجماعات الإسلامية المتشددة في الحرب التي دارت في الثمانينات ضد الاحتلال السوفييتي لأفغانستان. والكل يعلم كيف انقلب السحر على الساحرَين في نهاية المطاف، فاستحالت أفغانستان ساحة تدريب لجماعات سلفية جهادية وتكفيرية ما لبثت أن ارتدّت على الدولتين اللتين دعمتاها. وقد كان أبرز تلك الجماعات تنظيم «القاعدة» الذي أسّسه وتزعّمه ابن المملكة الشرعي، أسامة بن لادن، الذي ما لبث أن أعلن الحرب على واشنطن والرياض إثر انتشار القوات الأمريكية وحليفاتها على أرض المملكة، تمهيداً لانقضاضها على القوات العراقية في الكويت واجتياحها لقسم من أراضي العراق. وفي ذلك الارتداد لتنظيم كان أصلاً وليد المملكة وربيبها، كمن سرّ المفارقة التي شكّلها كون خمسة عشر من الرجال التسعة عشر الذين قاموا بتنفيذ عمليات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001، كونهم من رعايا المملكة السعودية.
لا بدّ من تذكير العالم باستمرار بتلك الحقائق التي يغفلها أو يتغافل عنها من يطيب لهم في البلدان الغربية أن يعزو الدور الكبير والمتميّز الذي يقوم به التزمّت الديني في دائرة الإسلام إلى الديانة الإسلامية ذاتها، وهم يزعمون تفوّقهم الثقافي والأخلاقي عليها. لا بدّ من تذكير العالم باستمرار بأن الولايات المتحدة نفسها، زعيمة الإمبريالية الغربية التي طالما ادّعت أنها حاملة مشعل الحرية وحقوق الإنسان في العالم، إنما هي التي رعت داخل محميتها السعودية أكثر أنظمة العالم تزمّتاً دينياً وعملت مع ذلك النظام على نشر التزمّت الإسلامي وتحفيزه في شتى أنحاء المعمورة، مع تسخير الدولتين لموارد طائلة في محاربة التنوير وبثّ الظلامية.
إن الكوارث التي تعاني منها دائرة الإسلام من جرّاء ذلك التاريخ والمتمثلة برواج التزمّت الديني والتخلّف الثقافي وحدّة قهر النساء وتعاقب الجماعات الإرهابية بصورة تصاعدية بلغت مع جماعة «داعش» حدّاً في «التوحّش» فاق التصوّر، إنما هي حقاً وبالدرجة الأولى إرث «الحرب الباردة» والتعاون الوثيق الذي قام خلالها بين الولايات المتحدة الأمريكية ومحميتها العربية الإسلامية المتزمتة، المملكة السعودية. وفي ذلك وجه رئيسي من أوجه لعنة النفط التي أصابت منطقتنا منذ أوائل القرن العشرين.
ولا بدّ من أن نذكر في هذا الصدد دور المخابرات المركزية الأمريكية في الإطاحة بحكومة محمد مصدّق في إيران في عام 1953 عقاباً على تجرؤها تأميم النفط، وما تلا ذلك من سحق نظام الشاه للقوى التقدّمية الإيرانية بما فسح المجال أمام احتلال التزمّت الديني لساحة المعارضة في ذلك البلد. وقد أفضى الأمر إلى سيطرة التزمّت الديني في طهران بعد الرياض، وباتت منطقتنا مسحوقة اليوم بين فكّي تلك الكمّاشة الكارثية. ولن ينتهي كابوسنا سوى بزوال التزمّت عن الدولتين اللتين تصدّرانه مثلما تصدّران النفط. أما ظنّ وليّ العهد السعودي أنه يستطيع محاربة التزمّت الديني بالاستناد إلى التطرّف اليميني الإمبريالي الذي يمثّله بامتياز دونالد ترامب، حليف التطرّف الصهيوني، فكمن يعتقد أنه يستطيع أن يطفئ النار بسكب مزيد من النفط فوقها.
نقلا عن القد س العربي