محنة التعليم الحكومي في تونس

أربعاء, 2018-04-18 09:30
محمد كريشان

«لم يحدث هذا من قبل في تونس على الإطلاق، لا قبل الاستقلال (1956) ولا بعده»… هكذا علق وزير التربية التونسي، فيما علق غيره بالقول إن هذا الأمر لم يحدث أيضا في أحلك أيام الاضطرابات الأمنية الشديدة التي صاحبت الاحتجاجات الشعبية الواسعة التي أطاحت ببن علي مطلع 2011. 
ما هذا الذي لم يسبق أن عرفته البلاد؟؟ إنه قرار نقابة التعليم تعليق الدروس بداية من يوم أمس الثلاثاء بشكل مفتوح في كل المعاهد الثانوية والمدارس الإعدادية بحيث يحضر المدرسون إلى مقرات عملهم دون أن يدخلوا فصول التدريس. إجراء غير مسبوق فعلا يهدد الجميع بعام دراسي «أبيض» خاصة وقد سبقه إمتناع هؤلاء المدرسين عن تقديم أعداد امتحانات الطلاب إلى الإدارة. 
لقد سبق أن هددت هذه النقابة بإجراء مماثل العام الماضي مع وزير التربية السابق لكنها لم تحظ وقتها بتأييد المركزية النقابية لتحركها على عكس هذه المرة ما أدى الآن إلى أزمة مفتوحة بين الحكومة وقيادة «الإتحاد العام التونسي للشغل» لا سيما بعد قرار وزارة التربية عدم الدخول في أية مفاوضات معه طالما استمر حجب المدرسين لتقييمات طلابهم بل وهددت من جهتها بحجب صرف رواتب هؤلاء إن هم ما استمروا في ذلك. 
مرد هذه الأزمة، كما تقول نقابة المدرسين، عدم تنفيذ جملة اتفاقات سابقة كانوا قد عقدوها مع الحكومة في السنوات الماضية إلى جانب تمسكهم بجملة مطالب من أبرزها إصلاح المنظومة التربوية والتخفيض في سن التقاعد إلى 55 سنة لمن له 30 سنة عمل ورغب في ذلك ورفض مقترح قانون رفع سن التقاعد إلى 62 مع تصنيف مهنة التدريس في التعليم الإعدادي و الثانوي كــ «مهنة شاقة». 
الحكومة ترى في ما يجري محاولة للي ذراعها و ابتزازها فيما ترى النقابة أن الحكومة تتنصل من التزاماتها و تكابر رافضة الحوار إلا بشروطها. النتيجة أن الطلاب وقعوا ضحية صراع الطرفين مع حيرة تعم العائلات التونسية بخصوص مآل هذا العام الدراسي بل و مصير التعليم الحكومي في البلاد برمته. وفي الوقت الذي يتردد فيه أن وزير التربية حاتم بن سالم هدد بالاستقالة إن خذلته الحكومة في وقفته الحالية ضد النقابة، توجه الأمين العام لاتحاد الشغل نور الدين الطبوبي بــ «ألف تحية» للمدرسين مع «التمسك بمطالبهم الشرعية». 
لعل «الميزة» الأساسية لهذه الأزمة الكبرى غير المسبوقة هو أنها قد تكون الفرصة الأخيرة التي قد لا تتكرر لتقييم مجمل قطاع التعليم في تونس بعد ما شهد طوال سنوات تقهقرا متواصلا في مستواه العلمي وتراجعا مستمرا في الميزانيات المرصودة لتوظيف أساتذة جدد و صيانة البنايات التعليمية التي بلغ العديد منها مستوى لا يليق أبدا. لقد اعتمدت تونس في سياسات بناء دولتها الحديثة بعد الاستقلال على ركيزتين سعى الرئيس الحبيب بورقيبة إلى إعلاء شأنهما دائما هما التعليم و الصحة فمنحتهما الحكومات المتعاقبة باستمرار الأولوية في خططها وميزانيتها، على عكس دول عربية، القريبة منها و البعيدة، توجهت إلى التسليح و صفقاتها الباهظة و الفاسدة. هذه الخصلة التي اشتهرت بها تونس لعقود شهدت فيما بعد تراجعا تدريجيا في سنوات حكم بن علي لكنها في السنوات القليلة الماضية أصيبت بنكسات خطيرة. 
ما أضفى على الأزمة الحالية بين نقابة المدرسين والحكومة بعدا خاصا أنها تأتي في وقت تعاني فيه الدولة من ضائقة مالية حادة وتراجع في نسبة النمو و عائدات التصدير و السياحة مما جعلها اليوم شبه عاجزة عن الاستجابة لهذه المطلبية المجحفة والمتصاعدة في كل القطاعات والتي يقف معها ويرعاها اتحاد الشغل، الذي يرى من ناحيته، أن الدولة تتحجج بضعف الامكانيات فقط عندما يتعلق الأمر بالموظفين ومتوسطي الدخل ولا تقوم بما يكفي لمحاربة لوبيات الفساد والتهرب الضريبي ومافيات التهريب التي انتعشت وتمددت هذه السنوات الأخيرة. 
ما أعطى كذلك «نكهة خاصة» للأزمة الحالية أن وزير التربية الحالي حاتم بن سالم الذي دخلت معه النقابات الآن في عملية عض أصابع عنيدة هو نفسه وزير التربية في آخر حكومة لبن علي قبل سقوط حكمه، و بالتالي فكأن الصراع معه هو صراع مع ذات المنظومة القديمة التي عاد الكثير من رموزها إلى الحكومة و مراكز القرار المختلفة في الدولة. 
هناك الآن شعور عام بالسخط يعم المجتمع التونسي تجاه أزمة يعتقدون أن فلذات أكبادهم باتوا رهائنها لاسيما و أن أغلبية الناس لا تستطيع التوجه إلى التعليم الخاص البعيد عن مثل هذه الهزات فتكاليفه فوق طاقتهم و بالتالي بتنا نتجه نحو تعليم خاص باهظ الرسوم لكنه جيد و منضبط عموما مقابل تعليم حكومي في تراجع متواصل من حيث الجودة والميزانيات المرصودة والانضباط السلوكي مما حدا بصحيفة «لابراس» الحكومية اليومية أن تختار عنوانا لصفحتها الأولى يقول «هل سنقول قريبا وداعا للتعليم الحكومي»؟

 القدس العربي