ضيق الأفق وقصر النظر، واختلال الأولويات، وضعف الفهم وفقدان البرنامج، تشكل الثالوث المرعب الذي هزّ -ولا يزال- كيان الإسلاميين في المنطقة العربية، وأورثهم تراجعات بائنة في السنوات الأخيرة.
وبطبيعة الحال؛ فإن مقاربتنا هذه لا تقترب من القوى والتيارات المرتبطة بفكر تنظيم القاعدة أو السلفية الجهادية التي لا تؤمن بالعمل السياسي والأسلوب الديمقراطي وتداول السلطة، وتنتهج العنف والقوة سبيلا لتحقيق أهدافها.
ضيق الأفق وقصر النظر
ضيق الأفق وقصر النظر والسطحية المفرطة في التعاطي مع قضايا السياسة وشؤون الدولة والعمل العام، تشكل الضلع الأول في ثالوث المعضلة التي أرهقت الإسلاميين وأورثتهم تراجعات انتخابية وخسائر شعبية مؤخرا، وأضاعت عليهم فرصا تاريخية لن يجود الزمان بمثلها، وأعادتهم ومشروعهم سنوات طويلة إلى الوراء.
لم تكن العقود الفائتة التي مرت على الإسلاميين كافية لاختبار مدى جدوى وفعالية مشروعهم السياسي، فحال الملاحقة والقمع الأمني الذي صبّته الأنظمة العربية المختلفة على رؤوسهم كان كافيا لتحجيم تطلعاتهم وقوقعة نشاطاتهم، وحشرها في زوايا ضيقة على المستوى الدعوي والتربوي والاجتماعي بعيدا عن أي ممارسة سياسية حقيقية.
لكن السنوات الأخيرة -التي أعقبت اندلاع بعض الثورات في المنطقة العربية- كشفت عن عمق الخلل البائن في مشروع الإسلاميين، وفي مقدمتهم جماعة الإخوان المسلمين وجماعات الدعوة السلفية والأحزاب الإسلامية ذات التوجهات المشابهة، وأفرزت خلاصات صادمة حول ضيق أفق الإسلاميين بشكل عام، وغوصهم اللا محدود في فضاء الشعارات الرحبة والبرامج الفضفاضة التي تفتقر إلى آليات التطبيق الواقعي، وتخلو من نقاط ومفاصل الارتكاز العملية التي تسمح بتحويل الشعار إلى واقع، والنظرية إلى تطبيق.
أحد أبرز تجليات ضيق الأفق وقصر النظر لدى الإسلاميين تمثل في انسياقهم وتساوقهم -أو قطاعات قيادية مؤثرة منهم على الأقل- مع الرسائل والتلميحات الأميركية حول قبول حكم الإسلاميين، فهاهنا ابتلع الإسلاميون الطعم دون أدنى بصيرة، واعتقدوا أن بساط الحكم قد بات ممهدا لتولي أمره والإمساك بزمامه، دون أن يدركوا طبيعة الفخ الذي يُنصب لهم، وحجم المكيدة التي تدبّر للإيقاع بهم، والزجّ بمشروعهم في أتون الصدام مع البيئة والواقع والمكونات المحيطة.
"لم تكن العقود الفائتة التي مرت على الإسلاميين كافية لاختبار مدى جدوى وفعالية مشروعهم السياسي، فالقمع الأمني الذي صبّته الأنظمة العربية المختلفة على رؤوسهم كان كافيا لتحجيم تطلعاتهم وقوقعة نشاطاتهم، وحشرها في زوايا ضيقة على المستوى الدعوي والتربوي والاجتماعي "
وهكذا، فقد انقلب الإسلاميون على وعودهم المعلنة التي قصرت مشاركتهم السياسية على الجانب البرلماني، وأطلقوا العنان لطموحاتهم نحو بلوغ الرئاسيات، وقد رأينا كيف أصرّ الإخوان المسلمون على ترشيح أحد قياداتهم لمنصب رئاسة الجمهورية في مصر، رغم ما جرّه ذلك على الإخوان من إشكاليات وتداعيات.
جرى كل ذلك دون أن يُجري الإخوان -ومن تحالف معهم من بعض التيارات الإسلامية الأخرى- فحصا جادا لقدراتهم وإمكانياتهم ومؤهلاتهم وخبراتهم الفنية والإدارية، ومدى إمكانية وفائهم باستحقاقات منصب الرئاسة من جهة، ودون أن يستقوا العبر من لعبة الأمم، أو يمعنوا النظر في شكل ومضامين المعايير والمحددات التي تحكم مسار وطبائع العلاقات الإقليمية والدولية من جهة أخرى.
لذا، لم يكن غريبا أن يفقد الإخوان بشكل خاص، والإسلاميون بشكل عام، ثقة شرائح وقطاعات سياسية وثقافية ومجتمعية هامة، وأن تزيّن لهم حساباتهم الخاطئة -التي بلغت درجة الغرور- طريقا مستقبليا محفوفا بالورود والرياحين لحكم الناس وقيادة الأمة، فيما كان القَدَر يدبّر لهم مصيرا آخر.
بل إن ضيق الأفق وقصر النظر لدى الإسلاميين بلغ ذروته إبان حكم الرئيس (المعزول) محمد مرسي الذي شهد كثيرا من القرارات والممارسات الخاطئة، إذ تجاهل الإخوان وحلفاؤهم كل النصائح المخلصة والمقترحات القويمة التي استهدفت إصلاح الخلل وعلاج الأخطاء، وما زالوا يتعاملون مع مرحلة ما بعد مرسي بذات الروحية العقيمة والمنهجية الخاطئة التي أوردتهم موارد التراجع والخسران.
اختلال الأولويات
ليس هناك ما هو أخطر على القوى والتيارات السياسية الطامحة للوصول إلى الحكم من فقدان البوصلة التي يسببها اختلال الأولويات.
وفي الحالة الإسلامية عموما، جسدت السنوات الأخيرة نموذجا خطيرا معبرا عن انحراف عميق في طبيعة التفكير المتوازن والفهم الدقيق لاحتياجات الواقع المعاش، وذلك عبر تكريس أجندة كبرى ذات أولويات صارمة، من قبيل العمل على طرح قضايا الحكم الإسلامي واللباس الشرعي والاهتمام المفرط بالقضايا التعبدية والدينية الأخرى، في الوقت الذي تمور فيه معظم البلدان العربية بالأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ولا يكاد يجد فيها الكثير من الناس قوت يومهم إلا بشقّ الأنفس.
لا مجال للاختلاف حول أهمية وضرورة القضايا الإسلامية التي يطرحها الإسلاميون، فقضايا الحاكمية والعبادة والتربية والسلوك تشكل أساس وجوهر الدين، ومناط فلاح العباد في الدنيا والآخرة.
"لقد بذل معظم الإسلاميين طوال العقود الماضية جهودا مقدّرة، ومارسوا أعمالا مبرورة، صبّت قطعا في صالح أبناء الأمة ومصلحة شعوبها، حين ركزوا ومنحوا أولويتهم في الماضي للعمل الاجتماعي، وتقديم المساعدات الخيرية والإنسانية للفقراء والمحتاجين دون إسقاط للفعل الدعوي والتربوي المطلوبلكن فهمهم وأولوياتهم شهدت انقلابا في الفترة الأخيرة"
لكن الجائع الذي لا يجد قوت يومه، والعاري الذي لا يجد ما يستر به جسده، والمريض الذي لا يجد الدواء، والمواطن العربي الذي يعيش ظروفا معيشية وإنسانية أقرب ما يكون إلى الحضيض، لن يكون في وارد الاهتمام أو حتى الاستماع إلى أية قضية تحرفه عن ضروراته العاجلة وأولوياته الملحة.
لم يدرك الإسلاميون -سوى نظريا- أنهم ورثوا عن الأنظمة العربية الاستبدادية التي أسقطتها الثورات العربية، أزمات اقتصادية وسياسية واجتماعية ونفسية عميقة، وأن قسوة الحال ورزيّة المآل الذي بلغه المواطن العربي معيشيا وإنسانيا، قد جعلت من أمنه المعيشي وكفايته الاقتصادية أولويته الأولى، بحيث يتضاءل أو يتأخر ما سوى ذلك من قضايا واهتمامات.
لقد بذل معظم الإسلاميين طوال العقود الماضية جهودا مقدّرة، ومارسوا أعمالا مبرورة، صبّت قطعا في صالح أبناء الأمة ومصلحة شعوبها، حين ركزوا ومنحوا أولويتهم في الماضي للعمل الاجتماعي، وتقديم المساعدات الخيرية والإنسانية للفقراء والمحتاجين دون إسقاط للفعل الدعوي والتربوي المطلوب.
لكن فهمهم وأولوياتهم شهدت انقلابا في الفترة الأخيرة حين هيمن العمل السياسي والنشاط العام على تفكيرهم وأجنداتهم، وباتت المعارك السياسية وسبل مواجهة الخصوم والأعداء، شغلهم الشاغل الذي حرف بوصلتهم عن مكمن الداء وأصل الأزمة.
وما زالت فئات مهمة من الإسلاميين تُعلي خطابها الديني ذا السمات الوعظية المجردة، دون أن يتطور فكرها وآليات معالجتها إلى ما يواكب روح العصر ويعايش هموم ومشكلات الناس، عبر تنزيل النص الديني على واقع الحياة، وتحويل الوعظ المجرد إلى آلية فعالة لطرح حلول حقيقية وفتح آفاق رائدة، ابتغاء مواجهة المشكلات الحادة والأزمات المستفحلة التي تواجه الأمة وشعوبها.
وبالرغم من انهيار حكم الإسلاميين في مصر وتونس، فإن إسلاميي مصر لم يستخلصوا العبر ولم يستوعبوا الدرس حتى اليوم، بينما أدرك إسلاميو تونس -ولو متأخرين نسبيا- طبيعة الخلل وحقيقة المعادلة، ووضعوا الإصبع على الجرح النازف بهدف مداواته وتضميده خلال المرحلة المقبلة.
وباستثناء إسلاميي تونس، فإن أيا من الإشارات لا تتوفر حول مراجعات حقيقية يبتدرها الإسلاميون في المنطقة العربية، لتصحيح البوصلة وتقويم الأخطاء وإعادة ضبط وبرمجة الأولويات، بما يمكّنهم من تلافي أخطاء الماضي، والتأسيس لمرحلة جديدة من العمل المثمر والجهد الفعال خلال المرحلة القادمة.
ضعف الفهم وفقدان البرنامج
كان من الطبيعي تماما أن يشهد حكم الإسلاميين في المنطقة العربية مآلات مأساوية على أية صورة كانت، إذ إن انخراطهم في حلبة العمل السياسي وسعيهم المحموم لتولي دفة القيادة وزمام السلطة، كان متسرعا وغير محسوب بكل المقاييس، ولم يُراعِ جملة الاشتراطات والمعايير والحقائق التي تحكم أصول الحكم والمشاركة السياسية في المنطقة العربية.
"المجتمعات العربية التي عانت من شدة وطأة الفقر والبطالة والأزمات الاقتصادية المختلفة لم تكن بحاجة إلى نصوص فضفاضة غير قابلة للصرف أو التطبيق الواقعي، بقدر حاجتها إلى برامج تفصيلية ذات آليات دقيقة لمواجهة هذه المشكلات المستعصية"
وكما أسلفنا، فقد سقط الإسلاميون منذ البداية في حبائل المكيدة الأميركية التي أوهمتهم بتقبّل الإدارة الأميركية لحكمهم، واستعدادها للتعاون معهم حال وصولهم إلى سدة الحكم، وجاءت عدة مواقف أوروبية إيجابية لتصبّ في ذات الاتجاه، وتُغري الإسلاميين بولوج درب الآلام والأشواك وطريق الصعاب والمكاره والمشقات، الذي يشتهر بكثرة ألوان وتجليات السواد والخبث والتآمر والفجور الكامنة بين ثناياه وتفاصيله المختلفة.
اعتقد الإسلاميون أن مجرد قبولهم اللفظي أميركيا وأوروبيا كفيل بفتح أبواب السياسة الإقليمية والدولية على مصاريعها أمامهم حال وصولهم إلى سدة الحكم، وتناسوا أن الغرب الحاكم هو أعدى أعدائهم ويتربص بهم الدوائر، ولم يفطنوا إلى هذه الحقيقة إلا في اليوم التالي لسقوط حكمهم، حين اكتشفوا أن الإدارة الأميركية وحلفاءها هي التي تحرك الثورات العربية المضادة من وراء الستار، وأنهم (أي الإسلاميين) سقطوا في حقل ألغام بلا قرار.
ومن جهة أخرى، تناسى الإسلاميون أن البيئة الإقليمية والدولية -على اختلاف مشاربها وأنظمتها- تعادي الإسلاميين بشكل عام، وأنها مستعدة لفعل كل ما يمكن فعله، وبذل كل ما يمكن بذله، من أجل إحباط أية تجربة إسلامية حاكمة وإفشالها في مهدها بأشكال وأساليب مختلفة، وقد كان.
والواقع أن بعض قيادات الإسلاميين التي تدّعي التذاكي السياسي زيّنت لفصائلها وتياراتها فضائل المشاركة السياسية والمكاسب الكبرى التي ستجنيها من تولي مقاليد الحكم، دون أن تقدم لها رؤية دقيقة وتفصيلية حول متلازمة المسارات والمآلات المتوقعة، أو تضعها في صورة العواقب المحتملة التي يمكن أن تنجم عن حرق المراحل واقتحام الحكم من أوسع أبوابه، وما يعنيه ذلك من تهديد خطير لمنظومة القوى الإقليمية والدولية التي تفرض معادلة ومحددات غير قابلة للنقض أو الانهيار.
وبموازاة ذلك، كان اعتقاد الإسلاميين عموما أن ممارسة شؤون الحكم والعمل العام أمر عادي، وأن القضية برمتها لا تحتاج إلا إلى برنامج عمل ذي مبادئ واضحة كي تفك بذلك الأزمات وتنحل العقد ويسود الهناء والرخاء، دون أن يدركوا أن برنامجهم المطروح مثالي السمات، عمومي الألفاظ، عديم الآليات، وأن هذا البرنامج سرعان ما ينهار مع أول اختبار حقيقي على أرض الواقع.
فالمجتمعات العربية التي عانت من شدة وطأة الفقر والبطالة والأزمات الاقتصادية المختلفة لم تكن بحاجة إلى نصوص فضفاضة غير قابلة للصرف أو التطبيق الواقعي، بقدر حاجتها إلى برامج تفصيلية ذات آليات دقيقة لمواجهة هذه المشكلات المستعصية.
وفي نظر المواطن العربي البائس؛ فإن نجاح أي حزب أو قوة سياسية حال تسلمها مقاليد السلطة، يكمن في مدى قدرتها على حل مشكلاته الاقتصادية، ومعالجة همومه الاجتماعية المتفاقمة أولا وأخيرا، وعلى رأسها توفير فرص العمل، ورفع مستوى الدخل، وتلبية شروط الحياة المختلفة، وهو ما عجز الإسلاميون عن ملامسته أو استيعابه خلال السنوات الأخيرة.
وأخيرا..؛ فإن المعضلة الأخطر التي تفوق ما تم سوقه من معضلات، تكمن في ضعف استجابة الإسلاميين لنصائح المخلصين، وعدم تفاعلهم مع الخلاصات التي تُمليها جولات المراجعة واستخلاص العبر، الصادرة عن أهل الخبرة والدراية، والعديد من الجهات المُشفقة، ودوائر البحث العلمي والتخطيط الإستراتيجي، وهو ما يُطيل أمد الأزمة التي يواجهها الإسلاميون، ويجعلهم أبعد ما يكونون عن تحقيق شعاراتهم المرفوعة وأهدافهم المعلنة.