خربشات العروبة الفصحى

سبت, 2014-10-11 18:22
 محمود الزيبق

أكاد أجزم بان نزار قباني كان نبي الشعر المعاصر حين وصف عصرنا في إحدى قصائده «بالعصر الشعوبي – الجبان «.
تبدو العروبة رجل اليوم المريض الذي تقتسم تركته على حياته وتنهال السكاكين لاقتطاع الحصص من جثته الحية. لا شك ان بعثيي العراق وسوريا كان لهم دور كبير في مسخ كلمة العروبة وتسخيفها في آذان سامعيها أو قارئيها لتصبح كلمة بالية من عصر التنظير .. سيما ان حكاية الوحدة العربية وتحطيم الحدود، التي أفنى منظرو البعث على طرفي الحدود في سورياوالعراق، أعمارهم في التنظير لها بدت أسهل بكثير من تنظيراتهم حين جاء من أقصى الأرض رجل غير عربي يدعى عمر الشيشاني لم يبلغ الثلاثين من عمره بعد واستطاع ازالتها بالجرافة خلال تسجيل مرئي من نصف ساعة أعلن فيه «دولة العراق والشام».. حتى ان القوم ليتساءلون ان كانت الجرافة التي أزالت الحدود بهذه البساطة قد اخترعت في عصر بعثيي العراق وسوريا أم لا . 
لكن المشكلة لم تعد على العروبة فحسب بل تعدتها إلى العرب أنفسهم إذ أصبحوا «ملطشة» القاصي والداني بما اقترفوا على أنفسهم. 
واحدة من الجدليات التي نسمعها اليوم في شمال سوريا هي تسمية مدينة عين العرب كوباني المختلف عليها مع ان الباحثين عربا وكردا وأتراكا يتفقون على ان الاسم القديم للمدينة هو عين العرب وان كوباني هو اسمها الذي أطلق عليها ما بعد العام 1912 تخفيفا من «company – kompanie « والتي تعني بالألمانية كما الانكليزية الشركة وذلك نسبة إلى شركة الخطوط الحديدية الألمانية التي اتخذت من عين العرب مقرا لها آنذاك.
أما أصل التسمية فيعود إلى عيني ماء كانتا على طرفي الحدود السورية التركية قبل ترسيمها وقد أطلق عليهما الاتراك اسمي « بينار مرشد بينار عرب « وكلمة بينار تعني « نبع « 
وقد أطلق على عين العرب مسماها ذلك لأن العرب الرحل كانوا يردون بماشيتهم عين الماء ذاك. مازالت بينار مرشد محافظة على اسمها واسم المعبر الحدودي فيما تبدو عين العرب موضع الخلاف والبحث وقد اتفقت كل وكالات الانباء العالمية على تسميتها بـ كوباني وإغفال العرب وعينهم… لكن المضحك أكثر ان العرب أنفسهم اقتنعوا بأن تسمية عين العرب هي محاولة بعثية لمسح الاسم الكردي للمدينة ويحتجون لذلك بأن المدينة لا عين فيها ولا عرب «العرب فيها أقلية»… مع العلم ان « كوباني « ليست مفردة كردية أصلا وإنما هي تخفيف من الألمانية كما أسلفنا… وان عين الماء تلك جفت في المدينة عام 1958 أي قبل وصول البعث للسلطة أصلا . 
الجدلية تتبع لجدلية أخرى تستهدف أيضا مسح الوصف العربي لسوريا كما مسح من العراق سابقا بحيث يغدو اسمها « الجمهورية السورية « وليس «الجمهورية العربية السورية « وذلك بطلب من الأقليات الموجودة في البلاد لا سيما الكرد الذين يحتجون على إعطاء البلاد سمة العرق الغالب… مع العلم ان بلدانا كثيرة أخرى كروسيا وتركيا واسبانيا وألمانيا وأرمينيا ويطول العد تحمل اسم العرق الغالب فيها دون ان ترى الاقليات العرقية المتواجدة فيها في ذلك إلغاء لوجودها وكيانها وإثباتا للأرمن أو الترك أو الروس أو الجرمانيين… وأي دولة تلك التي تستطيع إرضاء كل مكوناتها باسمها الرسمي.. المضحك أكثر في الحكاية ان سوريا بحد ذاتها هي اسم عرقي يشير إلى السريان فلماذا كانت مشكلة الأقليات مع العروبة ولم تكن مع السورية التي تشير إلى واحدة من أقل الأقليات في سوريا تعدادا اليوم. نعود إلى أصل المشكلة وهي ان تلك العروبة المسكينة لم تعد فخرا لأحد.
جاء العرب فيما مضى إلى سوريا فلم يغيروا فيها اسما واحدا وما زالت الآلاف من مدنها وبلداتها تحمل الأسماء السريانية الآشورية بل ان العرب حملوا معهم تلك الأسماء الأعجمية إلى الاندلس فأطلقوا اسم دمشق على غرناطة وحمص على إشبيلية… ومع ذلك هم متهمون بتغيير اسم كوباني أو غيرها… مرة أخرى نعود إلى أصل الحكاية والمشكلة وهي العرب الذين لم يتركوا في اسمهم ما يفتخر به إلا صفحات من التاريخ اختلف عليها مؤرخوهم أنفسهم وما زالوا أولئك العرب يعيشون نتائج اختلافهم وشقاقهم إلى يومنا هذا. 
طبع العربي منذ القدم على حب السيادة والزعامة والأنفة التي تأبى الانقياد للغير وهو ما لم يجمع عرقهم في دولة منذ القدم فكانوا قبائل متفرقة متناحرة على هامش الأمم الكبرى يقبلون بالضعف على ان يحكمهم رجل من قومهم لا من غيرهم، وما زلنا نرى أثر ذلك الطبع فيهم إلى يومنا هذا. على ان أطرف ما عبر عن حالتهم تلك قول صاحب مسيلمة الكذاب « والله اني لأعلم ان مسيلمة كذاب وان محمدا صادق ولكن كذاب ربيعة أحب إلي من صادق مضر « . 
قد لا يكون في اللغات كلها لغة لها لطيف أوزان لغة العرب التي تشير إلى المعنى بمجرد سماعه كاسم الآلة مثلا فبمجرد سماع الوزن « مفعال « سيدرك السامع ان المفتاح هو آلة للفتح والمحراث آلة للحراثة والمذياع آلة تذيع الانباء .. لكن مجامعهم اللغوية اختلفت رغم ذلك على تعريب الكمبيوتر إلى الحاسب أو الحاسبة أو الحاسوب واحتارت ما بين الرائي أو التلفاز إلى آخر تلك التعريبات الكثيرة ولو انهم اخترعوا واحدة من تلك الآلات ثم لم يجدوا لها إلا اسما أعجميا لكان خيرا لهم من الاختلاف على تعريبها ..
العروبة اليوم تهمة يا سادتي… كيف ودول العرب وساستها ليسوا أكثر من معربين للسياسات الأمريكية وان اختلفوا في تعريب تلك السياسات كما تختلف مجامعهم اللغوية في تعريب المفردات… أحيت إسرائيل اللغة العبرية من موات وشبه انقراض بمفردات مختلفة تماما عن العبرية القديمة وهي « بواقعها الحديث « على عمرها الذي لم يزد عن بضعة عقود تعد لغة تدريس جامعية محترمة في الغرب والولايات المتحدة خلافا للعربية التي يخجل أبناؤها منها ويزعجهم ان تكون لغتهم الجامعية، ويرون انها قد تحول بينهم وبين الكثير من العلوم التي أمست لغات الأرض الأخرى معجما لها .. مع العلم ان تدريس الجامعات الأفريقية والعربية لطلابها بالانكليزية والفرنسية لم يجعل منهم علماء أو مخترعين ولم يرفع قدر تلك الجامعات بين جامعات العالم الأولى والتي صدرت أحدث تصنيفاتها مؤخرا فكانت الجامعة الأولى عربيا في المرتبة 249 عالميا ! .. 
العربية ليست لغة فقيرة أو عصية على العلم بل هي بحر متجدد يكمن الدر في أحشائه ولكن المشكلة في العرب لا في العروبة أو العربية ..
لست مهتما للتصويت لعروبة الاسم في سوريا « فيما لو بقيت « وجرى استفتاء ما على اسمها يوما ما .. لا يعرف الكثير من العرب ان اسم السويد يعني « ملك الفرد أو الشخص « ولكن كثيرا منهم يعرفون ان اسمها لم يجعلها ملكا لفرد أو لعنترة أو سعود أو غيره بل هي دولة المواطنة التي تحترم جميع مواطنيها وتمنحهم حقوقا متساوية مهما كانت أعراقهم فالمشكلة لم تكن يوما في التسمية ولم يكن في الاصطلاح يوما مشاحّة . مع الاعتذار من محمود درويش أعود على بدء لنزار قباني لأقول 
إذن سجل .. 
برأس الصفحة الأولى ..
انا لست مهتما بأصل عروبتي .. ورائي نزار أم ورائي تغلب.