ليس يضر المتعلم أكثر من قراءة كتب منعزلة عن سياقاتها.. ليس أخطر على الشخص من تبن لا واع لموقف ما، في حين يظنه صادرا عن إرادة حرة.. تكمن أهمية "فرويد" في جزء منها في أنه برهن أن "الوعي" لا يشكل بالنسبة إلى "اللاوعي" إلا كما يشكل الجزء الظاهر من جبل الجليد بالنسبة إلى جزئه المطمور.
شذرات تقديمية:
1ـ هذا المقال ليس موجها ضد شخص معين، لكنه يناقش مجموعة آراء غير مُؤسَّسة كانت التدوينة المتناولة هنا هي آخرها.. لذلك فالحديث عن هذه التدوينة ليس باعتبار موقف مسبق من صاحبها وإنما فقط لأنه يمثل (ملعو̋گ المية) كما يقال في الثقافة الحسانية..
يرى علماء النفس التطوري و الانثروبولوجيا أن "التفاضل" و "التصنيف التفاضلي" يعتبر من أهم الأحكام التي كانت وراء نجاة جنسنا في السهوب الإفريقية قبل مئات آلاف السنين، فعن طريق التفاضل عرف أجدادنا أن طريقا معينا أفضل من طريق آخر للوصول إلى مكان الطعام، كما عرفوا أن نبتة معينة أفضل لتزويدهم بسعرات حرارية من نبتة أخرى، و عرفوا كيف يصنفون أنواع الغذاء إلى أنواع سامة وأنواع مفيدة وأنواع طبية...
2ـ الأساس الابستمولوجي لهذا المقال ينطلق من توافقات السائد في مجال المعارف والعلوم الإنسانية، هذا السائد الذي يستمد سيادته من التفكر (بمعناه العلمي وليس بمعناه الشرعي) ومن قوة النظر وليس من المجاملات الكتابية..
يستند الحكم بالتفاضل في الفلسفات الأخلاقية والانثروبولوجيا الثقافية المقارنة إلى سمتان رئيسيات: أولاهما أن الحكم يكون دائما باستحضار نظام تفاضلي لدى الشخص وثانيهما وجود "نموذج ذهني للمقارنة". ثم إن الحكم المعياري التفضيلي على الأشياء هو خاصية بشرية، حتى عندما يأتي أحدهم ليفند وجود هذه الخاصية فإنه يطلق مفاضلة من نوع ما، مثلا حين يقول إنه لا مجال للتفاضل في المجال العام فإن هذا حكم معياري يستند إلى القيمة التفاضلية الموجودة في ذهن صاحبه وفي أذهان البشر.
يُطرح الأساس الابستمولوجي لهذا المقال هنا مشفوعا برؤى وآراء بعض أهم الفلاسفة و علماء الاجتماع والانثروبولوجيا وعلم النفس تطوري... نتحدث هنا فقط عن الآراء المؤسَّسَة ابستمولوجيا، والتي وحدها تستحق في ميدان الفكر تسمية آراء، أما غيرها فإنه يبقى مجرد "سرديات".
3ـ في تمييز "الأفهوم Notion " و"المفهوم :" Concept
يشير الأفهوم Notion إلى فكرة عامة لم تصلح بعد عن طريق التعيين والحد لأن تتحول إلى "مفهوم".. إنها مشروع مفهوم لم يتبلور بعد. يرتكب الكثير من الناس الخطأ حين يعتبرون الأفهوم مفهوما.. لا ُيعذر أصحاب التخصص والقريبون منهم في إطلاقهم لفظ "مفهوم" على "افهوم" كما يحدث عندما نتحدث عن "المجال العام" بوصفه "مفهوما" في حين أنه لا يتعدى أن يكون "أفهوما"..
يشير "المفهوم" Concept إلى الماهية الجوهرية لموضوع فعل تفكير، إنه يشير إلى الفكرة المجردة عند انفكاكها من أي علاقة بشيء آخر يمكن حمله عليها. الجمال ليس هو الجميل بحسب محاورة "هيبياس الأكبر" لأن الجميل يشير إلى حمل متعلق (صفة) على المفهوم (الجمال).
العرض:
تتميز " السرديات" اللاعلمية، بأنها لا تقر معرفة أكيدة وإنما تعتمد على "حشد الرأي" من خلال تلاعبها بالكلمات. إنه نمط من السفسطة التي تعني نوع من المحاججة يعتمد على مقدمات فاسدة (كما يقول أرسطو في معرض رده على السفسطائيين).. تبدو هذه المقدمات لأول وهلة وكأنها مقدمات موافقة لأصول المنطق، لكنها تصل في النهاية إلى نتائج لا تتوافق مع المقدمات المطروحة من حيث تعذرها واقعا (مثل حجة "زينون") أو لأنها قامت منذ البداية على استعمال قياس مغلوط (كما كان يحلو لابن رشد أن يسميه) لقواعد الاستنتاج..
إنه نوع من القياس ذو الشكل الصحيح و النتيجة الباطلة بسبب تمويه الأقوال..
يوسف القرضاوي و توباك: (2pac)
القرضاوي على جانب يقف معه الددو والعريفي والبوطي وابن عطاء الله السكندري والإمام مالك وابن حنبل.. على الجانب الآخر توباك وامينيم وسنوب دوغ وموتزارت و بيتهوفن... أناس من أهل الميدان عاشوا فيه وخبروه وآخرين لا دراية لهم به.. كيف تستقيم المقارنة
أيهما أفضل؟ كيف السبيل إلى مقارنة فقهاء وعلماء دين بفنانين موسيقيين.. في المجال التداولي السياسي الإسلامي؟
لا مجال للمقارنة لاختلاف سياقات التفضيل.. ثم إن القول بأن ليس أحدهما أفضل هو قول منطلق من حكم قيمي معياري في الوقت الذي ينكر فيه مثل هذا النوع من الأحكام.. إن هذا يشبه مذهب بعض السفسطائيين الذين ينكرون وجود معرفة يقينية و يعتبرون أن قولهم هذا يقيني..
هل تدخل صيغ التفضيل في مجال العلوم؟
لكل علم مجموعة أساطيره المؤسسة بحسب "مرسيا إلياد" الذي يقول (إن العلم والعلمانية ينتجون أساطيرهم الخاصة باستمرار).. ولكل علم كذلك تفضيلاته المعيارية اللاعلمية. إنها عبارة عن بديهيات لدى "متحد علمي" بلغة الابستمولوجي العظيم "توماس كون".
في أساسيات علم المنطق الصوري، فإن التفاضل هو في القيمة النهائية والنتيجة المرجوة من التداول، وإلا ظل التداول دون قيمة ولا يحرك ساكنا مثل مبدأ الحركة عند فيلسوف مدينة "إيلية" (زينون).
إن ما يجعل جماعة تختار من بين المعروض عليها، هو قيمة ذهنية مبنية على اعتبارات عديدة (النظرة الشخصية، حضور الكاريزما، قوة الحجة، قوة الإقناع...الحالة النفسية وقت الحكم...).
في الفيزياء، وليس علم الاحتمالات الرياضي، فإن احتمال وجه من أوجه حجر النرد في الظهور ليست متساوية مع احتمالات الأوجه الأخرى نتيجة لموقعه وقت الرمي ونتيجة لعدة احتمالات واقعية كتأثير القوى المؤثرة في وجوه الحجر ساعة الرمي.
هناك سردية (على الرغم من أنه تم اعتبارها لعدة عقود معرفة علمية إنسانية) رافقت بداية التنظير في مجال الفلسفة السياسية تقول بأن المجال العام هو مجال تداول تدخل فيه الآراء بنفس القوة.. من المعروف اليوم أن هذه السردية أصبحت تعتبر من التراث الفكري اللاعلمي (السردي اليوتيبي).
اعترض "ميشيل فوكو" في أحد كتبه الشهيرة (محاضرة دراسية في الأصل تم تحويلها إلى كتاب فيما بعد) على المبدأ القائل بالمساواة في المجال التداولي الغربي الحديث عندما اعتبر أن الدول الأوربية لا تقف على أرضية مساواتية في ظل الأوضاع التي نتجت عن اتفاقية "وستفاليا" الشهيرة.. اعتبر فوكو بناء على ذلك أن المجال التداولي السياسي ليس منصفا للمنخرطين فيه حيث لم يدخلوه على قدم المساواة و اعتبر في قلبه الشهير للمقالة المعروفة لـ" كلاوزفيتز " أن السياسية ما هي إلا امتداد للحرب بطرق لينة (قالبا مقولة كلاوزفيتز: إن الحرب ما هي إلا امتداد للسياسية بطرق عنيفة).
تتحدث التدوينة عن مفهوم التفاضل في المجال العام، ولنسمها (وسم) منذ الآن بـ"الدوينة الأصل" (إن حضور الميسم في ثقافتنا الرعوية له مدلوله الخاص في هذا المجال)، لأن تدوينة الصديق (التي يسعى هذا المقال إلى شرحها) إنما هي تعليق على "التدوينة الأصل".
يذكرنا هذا بالشروح والتعاليق وشروح الشروح في منظومتنا الفقهية التي مكنت أجيالا متطاولة عبر القرون من معرفة شرع الله.. بعض شروح الشروح وبعض الحواشي تتحول أحيانا إلى نصوص مركزية..
تقرر "التدوينة الأصل"، أن الناس سواسية في المجال العام، فمثلا لا تختلف آراء "توباك" عن آراء "القرضاوي" في المجال السياسي، هكذا جاء في التدوينة.
لماذا توباك والقرضاوي؟ المعروف أن التدوينة موجهة للموريتانيين، ويستحضر صاحبها رمزين عند الموريتانيين (على الأقل الغالبية العظمى من الموريتانيين التي تفضل العلوم الشرعية على الموسيقى العابثة، لا نتحدث هنا عن الموسيقى الهادفة ومقامات السماع "الصوفية" الرائعة).. ينظر الموريتانيين لهذين الرمزين على أن أحدهما رمز للمعرفة الدينية والتوقير السلوكي، بينما يرمز الآخر لشيئ آخر..
لنلتمس العذر لصاحبنا (فالتماس الأعذار من شيم ثقافتنا) ونذهب إلى أنه يقصد أن المجال العام ليس حكرا لأحد عن أحد. نسجل من الآن أن كلمة "المجال العام" (مجال المدنس على حد تعبير الانثروبولوجيا الدينية) هو مجال مطاط وأقرب إلى "الأفهوم" من "المفهوم"، لعله يقصد المجال العام (التداولي الثقافي للأساس السياسي) الذي تحدث عنه "يورغين هابرماس" واعتبره مجالا كان مهما للتنوير عندما تحدث عن دور الصالونات الثقافية في النهضة الفكرية لأوربا. هذا المجال العام لم تكن الناس فيه سواسية، بل إنه خص مجموعة من أصحاب رؤوس الأموال المعرفية والفكرية فلا دخل لمن لا يمتلك مخزونا ثقافيا يمكنه من المناورة والنقاش هنا.
لقد أصبح من المعرفة التقليدية في العلوم الإنسانية وخاصة الانثروبولوجيا والسوسيولوجيا أن الأعوان (الفاعلين) المتنافسين في أي مجال لا يدخلونه وهم سواسية، بل يدخلونه بأرصدة مختلفة (لماذا يقبل البعض الدخول وهم يعرفون دونيتهم في المجال؟ لعدة أسباب من أهمها إيمانهم بإمكانية التغيير في القواعد أو الفوز بسبب أفكار جديدة يحملونها أو لإيمانهم الغيبي بأن قوة تقف معهم وتساندهم في تحقيق الفوز...).
يتحدث "بيير بورديو" عن "أعوان" يدخلون حقلا ما برؤوس أموال مختلفة وبها بيتوسات مختلفة (إن أفضل شرح للهابيتوس هو المثل الحساني (ما تركه آب فالدبش). يعتبر بورديو أن أي حقل (اجتماعي، سياسي، اقتصادي، فني، رياضي) هو عبارة عن منافسة بين فاعلين يمتلكون الأدوات الناجعة والموارد الرمزية للمحافظة على أماكنهم ضمن التراتبية، وبين وافدين جدد ناقصي تلك الامتيازات يحاولون تغيير هذه التراتبية، تارة من خلال المحاولة و الطعن في قواعد اللعبة و تارة من خلال الابتكار و تارة من خلال التشديد على عدم المساواة حين الدخول في المجال و التنافس فيه...
نفس الشيئ يذهب إليه عالم الانثروبولوجيا "بيير بونت" الذي خصص نصف أطروحته للدكتوراه للحديث عن التراتبية المسبقة التي يجد عليها الأفراد واقع مجال ما.. في المجال التداولي السياسي في الصحراء (وهو نمط خاص يحاول بيير بونت الانطلاق منه نحو تقرير حقيقة ثقافية تفيد بعموميته عبر الثقافية).
تتحدث "التدوينة الأصل" أنه لا يوجد شخص أفضل من شخص، وخاصة في المجال العام، الشيئ الذي رأينا أنه مناف لطبيعة الواقع السياسي و الاجتماعي في أي مجال، ثم تقول التدوينة إن المجال العام هو مجال التدوال وليس التفاضل. لقد غاب عن التدوينة أن أي مجال تداول يتم دخوله كما رأينا بنسب قوة متفاوتة، كما غاب عنها أن التفاضل هو في أساس وجاهة التداول.
لكن، من المعروف أن لكل مجال أصحاب و أرباب يعتبرون بصورة عامة (لدى الناقدين ولدى الجمهور) أفضل من غيرهم، هكذا يقال في العالم الغربي عند مجمّعات الفيزياء ولدى العامة إن "ألبرت اينشتين" هو أذكى العقول في مجال الفيزياء، على الرغم من أن النظر المتفحص يجد أن اينشتين ما هو إلا حلقة في سلسلة طويلة من الأذكياء.
في مجال "الهيب هوب" (الراب) يعتبر "توباك" إلى جانب "امينين" وآخرون هم الأفضل.. لذلك من السخف القول إن أي عالم دين (القرضاوي مثلا) أو محترف اقتصاد أو رياضة هو مساو لهؤلاء في مجالهم..
لكن للمجال العام (رغم ضبابية الأفهوم كما رأينا) خصائصه و سماته و مبادئه.. أولها أن هذا المجال يتيح صيغا من التفاعل لا يقدر على فهمها حق الفهم إلا من له دراية بالمجال.
نشير إلى "زيف" عبارة "نظرية إسلامية" التي جائت في التدوينة، لأن الأمر يتعلق بمجموعة نظريات إسلامية وليست نظرية واحدة.
اعتبر شراح الفلسفة أن التصنيفات (أفضل، فاضل، مفضول) كانت أول ما قام السفسطائيين (جورجياس، بروتاغوراس...الخ) بمحاولة دحضه، و من بعدهم قامت فلسفة "النسبية" التي كادت أن تودي بمفهوم "المفهوم" لولا دفاع "افلاطون/ سقراط" عن مبدأ "المفهوم" و اعتبار "ارسطو" من بعدهم أن "المفهوم" وحدة ذهنية عامة في البشر و هو ما سيأتي "كانط" بعد مئات السنين ليؤكده (على الأقل في الجانب الذي يعنينا هنا، جانب الحكم الأخلاقي و القيمي التفاضلي) قبل أن تحاول مطرقة "نيتشه" و "فرويد" خلخلته قبل أن تأتي بنيوية "ليفي شتراوس" لترد الاعتبار للمفهوم من خلال مقارنة ثقافات العالم و التأكد من أنها كلها تحوز مفهوما للخير و العدل و الجمال (المفاهيم الثلاثة التي تنبع منها كل صيغة تفاضل).
من المعروف أن مذهب "شتراوس" (بعد صدور كتابه العرق والتاريخ الذي طلبت منه المنظمة الدولية كتابته)هو الذي عليه إقرار منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو).. لقد كانت أعمال شتراوس منبها قويا ل"لمفهوم" ليواصل وجوده وقوته مستعينا بالتعديلات التي أدخلت عليه والتي أوحت له بها النسبية النتشوية كما أوحت نسبية "بروتاغراس" و أصحابه لسقراط بإدخال تحسينات على المفهوم و التمييز بينه و بين الأفهوم.
لقد راهنت "السفسطائية" على إحلال الأفهوم مكان المفهوم ليتسع لهم المجال و تتخلص من ضغط حصر التداول لعبارة ما على أنها "أفهوم" وهو الشيء الذي يمكنهم من الظهور أكثر و يتيح لهم هامش مناورة أوسع.. لكن سقراط ضيق "الهامش" ووسّع "المتن" ليعود المفهوم إلى مجال التداول كوحدة غريزية في أذهان البشر أشبه ما تكون بغريزة اللغة التي قال بها "تشومسكي" والتي أسست لحضوره كفاضل في مجال اللسانيات التداولية قبل أن يحتل مرتبة الأفضل ليس بناء على قوة حجته وإنما على جماليتها وتأييد الكثيرين لها، هذا التأييد أعطى لتشومسكي أفضلية على غيره في هذا المجال لا بقوة وصلاحية ما قال به بل نتيجة لاعتبارات سياقية أخرى كثيرة.
المؤكد في المجال التداولي الإسلامي أن القرضاوي والددو هم أفضل من توباك و ايمينيم. لماذا هؤلاء أفضل؟ لأن المجال التدوالي كما رأينا سابقا في أي حقل له أناس أكثر من غيرهم من حيث التخويل الذي حازوه بناء على رؤوس أموالهم المعرفية و جهودهم الدراسية والفكرية التي تخدمهم وتخدم هذا المجال.. فالمجال التداولي في العالم الإسلامي يقوم في جزء كبير منه على معرفة ما يريد الله أن يتحقق على الأرض عند ممارسة السياسية.. فالشريعة تضع معايير تغلب احد الاطراف على الآخر في إمكانية التداول في المجال السياسي، و من أهم هذه المعايير تلك المتصلة بالعدالة و التقوى (تقاس هذه المفاهيم بناء على سلوك الشخص و معرفته من قبل المجتمع المسلم) ولا شك أن القرضاوي لديه ما يؤهله من معرفة للخلفيات السياسية و الاجتماعية و المعرفية ليخوض في المجال التداولي السياسي في البلدان الإسلامية على عكس "توباك" الذي لا يعرف شيئا عن المجال التداولي الإسلامي.
إن الرأي الغير مُؤسَّس لا يعتد به في المجال التداوالي في أي حقل من الحقول (كرأي القرضاوي في تشكيلة فريق الريال في الكلاسيكو، ورأي توباك في كيفية تنقية بعض ممارسات مجتمعنا من شوائب الخرافة)..
إن الرأي الغير مُؤسَّس يبقى مجرد رأي (بمعناه الايتمولوجي في اللغة العربية) بينما تعتبر الآراء المؤسسة بمثابة معارف علمية لأن تأسيسها ينبع من رصيد أصحابها المعرفي في مجال ما و موافقته للعناصر الثقافية التي تقف في صلب تميز ثقافة ما عن غيرها (حيث يتم تأسيس الرأي ليس انطلاقا من هوى و إنما من معرفة و خبرة بما يشكل تمايز هذه الثقافة عن غيرها).
إن المجال التداولي في أي ثقافة إنما يعمل على تثبيت عناصرها الناظمة و استبدال أو تعديل غيرها من العناصر بما يتماشى مع رؤية هذه الثقافة للإنسان و الطبيعة و الإله.
«إننا لا نعرف من هو أفضل من من»، تقول التدوينة في نصفها الأخير ،هكذا على الإطلاق لا نعرف من هو أفضل من من.. افترض أن تطرح سؤالا على احدهم يقول هل "دونالد ترمب" أفضل من "تامر حسني"؟، سيجيبك على الأرجح بأحد جوابين: إما أن يجيب بسؤال آخر (كما يشاع عن إجابات الموريتانيين، أنهم يجيبون عن السؤال بسؤال آخر) في أي ميدان تقصد و في أي مجال تعني؟ وقد يجيبك أن احدهما أفضل بناء على تقدير موقف ذهني مسبق يستدعي انك بسؤالك تعني مجالا يكون عادة محط هذا النوع من الأسئلة (كثير من الناس في العالم الإسلامي سيفترض أنك تتحدث عن تفاضل في ميدان يلقي بظلاله عليهم هو الميدان السياسي و خاصة عداوة "ترامب" للمسلمين) سيجيبك أن "تامر حسني" أفضل لأنه لا يباشر سياسة تفضي إلى إلحاق الأذى بالمسلمين كما يفعل ترامب.
"القرضاوي ليس أفضل من توباك" من البديهي أن هذا تقرير غائم ومطاط تماما كالذي أشرنا إلى انه يمثل المدخل السفسطي لسردية ما، لكن بتضييق هذا القول نحن نعرف من هو أفضل من من في أي مجال.. هكذا تقول العلوم الإنسانية و الطبيعية (المؤكد أن اليورانيوم أفضل من الحديد في مختبر يريد الحصول على ذرات نشاطها الإشعاعي أكبر).
تقول التدوينة في نهايتها إننا لا نعرف من هو الأفضل في الآخرة. يصدق هذا فقط وفق شرطين: الأول أن تكون المفاضلة بين أشخاص ينتمون إلى نفس الملة، والثاني أن لا تكون هناك قيود أو أمارات تقول الشريعة إن من لم تتوافر فيه يعتبر مفضولا، و أن تكون هذه الأمارات مما يظهر على السلوك.
خلاصة:
إن التصنيف إلى أفضل وفاضل و مفضول هو من ضمن الخواص البشرية التي تتعالى على النسبية الثقافية و عوامل الزمان والمكان.. إنها خاصية بشرية عامة إلى حد الآن و إلى الحين الذي نجد فيه أي مجال تداولي لا توجد فيه لغة التصنيف إلى أفضل وفاضل ومفضول، سواء كان ذلك في مجموعة اجتماعية أو جماعة أو مجتمعا.